![]() |
الورثة
المقدمة
حين يموت إنسانٌ ويترك وراءه ثروة، لا يكون الموت هو الحدث الأهم. الأهمّ هو ما ينهض بعده: النظرات التي تتبدّل، والأسئلة التي تظهر فجأة وكأنها كانت تنتظر، والعلاقات التي تكتشف هشاشتها أمام رقمٍ مكتوب في ورقة. لم يكن يوسف فقيرًا، ولا كان غنيًا إلى حدّ الاستعراض. كان رجلًا يعرف كيف يبني، لكنه لم يفكّر يومًا كيف سيترك ما بناه. رحل دون وصيّة. وهذا وحده كان كافيًا ليُربك الجميع. منذ تلك اللحظة، لم يعد الموت نهاية، بل بداية صامتة لأحداث لم يكن أحد مستعدًا لها. هذه ليست حكاية عن الميراث، بل عمّا يكشفه الميراث حين يسقط القناع الأخير. |
(الفصل الأول) ناصر: حين يصبح الصمت موقفًا
ناصر لم يكن من أهل الفوضى،
ولا من أولئك الذين يسبقون الأحداث بتخميناتهم. كان يفضّل الانتظار، ليس لأنه لا يعرف، بل لأنه يعرف أكثر مما يجب. جلس في آخر الصف، بعيدًا عن الطاولة التي التفّ حولها الجميع. الملفّات أمامهم مفتوحة، الأوراق مرتّبة، والكلمات تُقال بنبرة رسمية تحاول أن تخفي شيئًا واحدًا: أن كل من في الغرفة يفكّر في نصيبه قبل أي شيء آخر. يوسف لم يكن حاضرًا، لكن اسمه كان يمرّ على الألسنة بصيغ مختلفة: مرة كـ المرحوم، ومرة كـ المورّث، وأحيانًا… كأنه سبب إزعاج غير مقصود. ناصر يعرف يوسف منذ سنوات، ويعرف أنه لم يكن من محبّي التفاصيل القانونية. كان يقول دائمًا إن الأمور الواضحة لا تحتاج إلى وصايا. لكن الواضح في ذهن رجل ليس واضحًا في قلوب الآخرين. رفع أحدهم صوته قليلًا، ليس غضبًا، بل رغبة في تثبيت حق. وتبعه آخر بجملة أطول، ثم ثالث حاول أن يبدو عقلانيًا وهو يشرح لماذا “التقسيم العادل” قد لا يكون عادلًا للجميع. ناصر لم يتدخّل. كان يراقب فقط. راقب كيف تغيّرت نبرة سالم، ذلك الهدوء الذي بدأ يتشقّق ببطء. وراقب ليان وهي تعقد يديها بإحكام كأنها تحاول الإمساك بشيء لا يُرى. حتى فهد، الذي اعتاد الحسم، كان أكثر حذرًا من المعتاد. الثروة التي تركها يوسف لم تكن رقمًا بسيطًا، وكانت كافية لإعادة رسم العلاقات كلّها. في تلك اللحظة، فهم ناصر شيئًا لم يُقل: أن ما سيحدث لاحقًا لن يكون خلافًا على المال فقط، بل اختبارًا حقيقيًا لمن يعرف نفسه… ومن كان يعرف يوسف فعلًا. حين أُغلقت الملفات مؤقتًا، وساد الصمت من جديد، نهض ناصر دون أن يقول شيئًا. لم يكن لديه ما يضيفه الآن. لكنه كان متأكدًا من أمر واحد: أن يوسف، بموته العادي، ترك خلفه أكثر مما كان يتوقّع. وكان هذا… مجرد اليوم الأول. |
(الفصل الثاني) نُورا: الشاهدة التي لا تُورِّث
وصلها خبر وفاة يوسف في الصباح،
كخبرٍ يبدو عاديًا في صياغته… لكنّه يُغيّر حياةً كاملةً في جوهره. لم تصرخ نُورا، ولم تتجمّد. اكتفت بأن أغلقت الهاتف بهدوء، ثم بقيت لحظةً تحدّق في الفراغ، كما لو أنها تُعيد ترتيب الأشياء في رأسها قبل أن تتحرّك. لم تكن نُورا من العائلة، ولا من الورثة، لكنها كانت تعرف تفاصيلهم أكثر مما يعرف بعضهم بعضًا. كانت محامية يوسف. المرأة التي سلّمها أوراقه حين كان “الوقت مناسبًا”، وأجّل معها أمورًا كثيرة إلى “وقتٍ لاحق”… ثم جاء الموت وألغى كل المواعيد. على مكتبها، كان ملفه حاضرًا كأنه لم يغادره أمس: عقود، مكاتبات، أرقام، وملاحظات بخطٍ حادّ، وفي أعلى الصفحة الأولى سطرٌ كتبه يوسف ذات يوم: «لا تُعقّدي الأمور… العدل واضح.» ابتسمت نُورا ابتسامةً قصيرة، بلا فرح. العدل واضح… نعم، لكن البشر ليسوا كذلك. حين يموت رجل ويترك ثروة دون وصيّة، لا يختلف الناس على المال فقط، بل يختلفون على ما كان يظنّه كلٌّ منهم “حقًا طبيعيًا”. ويصبح كلُّ ماضي العلاقة دليلَ إثبات، وكلُّ كلمةٍ قديمة سلاحًا جديدًا. جمعت نُورا الملف، ووضعته في حقيبةٍ سوداء. ثم أخرجت ورقة صغيرة كانت مدسوسة بين الصفحات، ورقة لم تكن ضمن الأوراق الرسمية، مجرد قصاصة كتب فيها يوسف بخطٍ أسرع من عادته: «إن حصل لي شيء… لا تسمحي لهم أن يستعجلوا القسمة.» توقفت عند الجملة طويلاً. لا تسمحي لهم أن يستعجلوا… من “هم”؟ ولماذا؟ ولماذا كتبها هنا، بلا توقيع ولا تاريخ؟ لم تسأل نفسها كثيرًا. المحاماة علّمتها أن الأسئلة التي تكثر… تكون غالبًا هي الطريق الصحيح. ⸻ وصلت إلى الاجتماع بعد الظهر. لم تدخل كضيفة، دخلت كمن يحمل ضوءًا لا يحبه أحد. كانت الغرفة مزدحمة بحضورٍ مصطنع: أصوات منخفضة، سلامٌ متقطع، وابتسامات متعبة تحاول أن تبدو لائقة بالمقام. رأت سالم أولًا. جلس كما يجلس من لا يريد أن يُسجّل عليه شيء، هادئًا… لكن ليس مرتاحًا. الهدوء عنده ليس طبعًا فقط، بل جدار حماية. ثم رأت ناصر. صامت في الطرف، لا يتحرك كثيرًا، لكن عينيه تعملان بلا توقف، كأنه يكتب المشهد كله في ذاكرته لليوم الذي سيحتاجه فيه. ليان كانت قريبة من الباب، كأنها تريد الهرب وتريد البقاء في الوقت نفسه. أما فهد… فكان يُدير الجلسة دون أن يقول إنه يديرها. النوع الذي يضع القرار داخل السؤال، ثم يبتسم كي يبدو الأمر خيارًا للجميع. حين بدأ الحديث عن “التقسيم”، خرجت الكلمات كما تخرج عادةً بعد الوفاة: بصيغة محترمة… وبقلبٍ متعجّل. قال أحدهم: «خلّونا ننهي الموضوع بسرعة… الناس ما تبي وجع رأس.» وقالت أخرى: «الموضوع واضح… ما فيه وصيّة، خلّونا نوزّع ونرتاح.» لم تتحرك نُورا. تركت الجمل تمرّ، ثم فتحت حقيبتها ببطء، وأخرجت الملف ووضعته على الطاولة. كان الصوت الوحيد الذي سمعوه جيدًا هو صوت الورق حين لامس الخشب. رفعت عينيها وقالت بهدوءٍ لا يرفع صوته، لكنه يفرض نفسه: «اللي ما فيه وصيّة… ما يعني إنه ما فيه حقوق.» ساد صمتٌ قصير. تابعت بنفس النبرة: «قبل القسمة… لازم نعرف الذمم: ديون، التزامات، شراكات، مستحقات… أي شيء باسم يوسف ما ينتهي بموته. المال اللي تبي تقسمونه… مو كله قابل للقسمة اليوم.» فهد ابتسم ابتسامةً صغيرة، وقال كأنه يربّت على الكلام: «كلامك صحيح… بس لا نطوّل. الناس تبي حل.» نُورا لم تنظر إليه مباشرة. فتحت صفحةً في الملف وقالت: «الحل السريع… غالبًا يصير مشكلة أطول.» ثم التفتت إلى سالم، لا كاتهام، بل كاستدعاء للواقع: «آخر أسبوعين… كان يوسف يوقّع أوراقًا؟ كان يراجع حساباته؟ كان يحوّل مبالغ؟» ارتبك سالم للحظة. ليس خوفًا… بل لأن السؤال ضرب منطقة لا يحب الاقتراب منها. قال: «كان… مرتب أموره، لكن ما قال لي عن شيء محدد.» نُورا أومأت وكأنها تتوقع ذلك. ثم قالت الجملة التي جعلت وجوهًا كثيرة تتغير دون أن تتكلم: «إذن… لازم نعرف لماذا كتب هذه العبارة هنا.» وأخرجت القصاصة الصغيرة. لم يأخذها أحد، لكن الجميع نظر إليها كما لو أنها تحمل وزنًا أكبر من الورق. ناصر شدّ نظره على الجملة، ثم رفع عينيه على سالم للحظة واحدة… لحظة قصيرة، لكنها قالت أشياء أكثر من كل الكلمات. أما ليان، فوضعت يدها على طرف كرسيها كمن يحتاج سندًا، وكأنها تذكّرت شيئًا لم تكن تريد تذكره. ⸻ انتهى الاجتماع دون اتفاق. لا لأنهم لم يريدوا الاتفاق… بل لأن شيئًا ما، لأول مرة، أجبرهم أن يتباطؤوا. خرجت نُورا إلى الممر، وأخرجت هاتفها لتستدعي سائقها. قبل أن تكتب شيئًا، وصلتها رسالة قصيرة من رقمٍ مجهول: «تم فتح صندوق يوسف اليوم… وفيه مستند ناقص. تعالي فورًا.» توقف الهواء حولها لحظة. لم تتراجع، لم تتوتر، لكن عينيها تغيّرتا. أغلقت الهاتف، وشدّت حقيبتها، ثم قالت لنفسها بصوتٍ لا يسمعه أحد: «الآن… بدأت الحكاية.» |
بارك الله فيك على الفصول وفقك الله اسكادا
|
(الفصل الثالث) الخَزْنَة: حين يتقدّم الحقّ على الميراث
لم تُعنِها كلمة صندوق.
فهي تعرف أن الارتباك يبدّل الألفاظ، لكنه لا يبدّل الوقائع. هناك شيءٌ فُتح، وشيءٌ أُخرج من موضعه، وهذا وحده كافٍ لأن يُستدعى العقل قبل العاطفة. أعادت الاتصال بالرقم فورًا. جاءها صوتٌ أنثويّ متردّد، حاول أن يستند إلى الرسمية كي يخفي ارتباكه: «أستاذة نُورا… أنا روان، سكرتيرة في الشركة.» توقفت نُورا نصف ثانية. اسم روان ليس من الأسماء التي اعتادت أن تظهر في القضايا الكبيرة، وهذا ما جعله أكثر دلالة. فالقرارات الثقيلة كثيرًا ما تُمرَّر عبر أصواتٍ عادية كي لا تُلفت الانتباه. قالت نُورا بنبرة هادئة لا تقبل الالتفاف: «من أين حصلتِ على رقمي؟» أجابت روان سريعًا: «الأستاذ فهد… المدير العام. قال: اتصلي بالمحامية فورًا.» لم تسأل نُورا لماذا. سألت السؤال الذي يختصر كل شيء: «ما الذي فُقد؟» قالت روان، وكأنها تزن كل كلمة قبل أن تنطقها: «الخزنة فُتحت اليوم… وكان فيها ملف. بعد المراجعة، قيل إن الملف لم يعد موجودًا، لأنه يحمل رقمًا متسلسلًا. وطُلب أن تحضري قبل أن يتسع الحديث داخل الشركة.» أغلقت نُورا المكالمة بكلمتين: «أنا في الطريق.» ⸻ كان مقر شركة يوسف قائمًا في المدينة كأنه لا يعرف الحداد. حركة لا تتوقف، اتصالات لا تنتظر، ومشاريع تمضي كما لو أن الموت حدثٌ يمكن تجاوزه في جدول الأعمال. في عالم المقاولات، لا يتوقف الزمن احترامًا للغياب، لكن الغياب أحيانًا يعيد ترتيب كل شيء. دخلت نُورا المبنى بخطوات واثقة. لم تحتج إلى تعريف، ولا إلى تبرير. اسمها كان جزءًا من ذاكرة المكان، منذ عشرين عامًا وهو يوقّع على القرارات الصعبة، ويُغلق الملفات التي لا تُغلق إلا بالعقل البارد. لم تطلب من أحد أن يدلّها. استدارت مباشرة، وسارت بخطوات تعرف طريقها جيدًا نحو الجناح الإداري العلوي، ذلك المكان الذي شهد بدايات يوسف الأولى، وحفظ توقيعه الأخير. ⸻ في الممر المؤدي إلى جناح مكتبه، لمحت روان واقفة قرب المصعد. فتاة عادية الملامح، واضحٌ على وجهها أثر الارتباك، كأنها أدركت متأخرة أن تنفيذ الأوامر لا يُعفي دائمًا من تبعاتها. قالت روان بصوت منخفض: «أعتذر… لم أرد إزعاجك، لكن الأستاذ فهد شدّد أن يتم الأمر بسرعة.» سألتها نُورا دون أن تتوقف: «من حضر فتح الخزنة؟» قالت روان: «وفاء… السكرتيرة التنفيذية الأولى… وحسام.» وكان ذكرُ صفتها وحده كافيًا ليُغني عن أي شرح؛ فـالسكرتيرة التنفيذية الأولى ليست موظفةً تُرتّب المواعيد، بل عينُ الإدارة حين تغفل، ويدُ الرئيس حين يغيب. توقفت نُورا عند الاسم كما يتوقف العقل عند كلمة غير متوقعة، لكنها لم تُبدِ دهشة. ففي القضايا الثقيلة، الدهشة ترفٌ لا وقت له. أومأت مرة واحدة، لا طلبًا للإرشاد، بل إيذانًا بالحسم، وتابعت سيرها نحو جناح يوسف. ⸻ كانت وفاء هناك. المرأة التي لم تصل إلى جناح يوسف بالصدفة، ولا بقيت فيه بحكم العادة؛ سكرتيرته التنفيذية الأولى… أي القريبة بما يكفي لتعرف التفاصيل، والبعيدة بما يكفي لتبدو في نظر الآخرين «مجرد منصب». لم تكن واقفة كمن ينتظر الإذن، بل كمن يعرف أن المكان يعرفه. فاتنة الجمال على نحوٍ يُربك دون أن يستفز، أناقتها محسوبة، وحضورها يسبقها كما يسبق العطر صاحبه— عطرٌ لا يصرخ، لكنه يترك أثره طويلًا بعد المرور. وقف حسام غير بعيد، صامتًا كما ينبغي للشاهد أن يكون. قالت نُورا مباشرة، دون مقدمات: «من فتح الخزنة؟» أجابت وفاء بثقة لا تعرف التردد: «أنا. فتحتها أمام حسام، والكاميرات كانت تعمل.» ثبتت نُورا نظرها فيها. نظرة محامية لا تتهم، لكنها لا تُغفل الاستغراب حين يصبح واجبًا مهنيًا. ثم سألت السؤال الذي لا يُقال عادةً بهذه الصراحة: «ولِمَ أخذتِ الملف؟» تغيّر شيء طفيف في عيني وفاء، لا خوفًا… بل قرارًا. كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة، وتعرف أنها ستأتي مهما تأخرت. قالت بوضوح كامل: «لأنه يخصني أنا. وليس لأحد من الورثة شأن به.» قالت نُورا، وهي تشدّ العبارة لتُظهر معناها القانوني: «وبأي صفة يخصك؟» تقدّمت وفاء خطوة واحدة، لا خطوة تحدٍّ، بل خطوة تعريف. قالت: «الملف الذي كان في الخزنة يحتوي على صكوك ملكية لمخططات أراضٍ بأرقام، كلها مسجّلة باسمي.» ساد صمت ثقيل. ثم أضافت وفاء الجملة التي أعادت ترتيب المشهد كله في لحظة واحدة: «وفي الملف نفسه… عقد زواجي من يوسف. أنا زوجته الشرعية.» لم يكن الصمت الذي سقط صمت مفاجأة فحسب، بل صمت إعادة توزيع: إعادة توزيع القرابة، والحق، ومعنى الميراث ذاته. قالت نُورا بعد لحظة، بنبرة قانونية ثابتة: «زواج موثّق؟» أجابت وفاء دون التفاف: «موثّق. شرعي. كامل.» سألت نُورا: «ولِمَ لم يكن معروفًا؟» ابتسمت وفاء ابتسامة قصيرة، لا انتصار فيها ولا اعتذار، وقالت: «لأن يوسف اختار الخصوصية. وبعض الحقوق كلما عظمت قيمتها احتاجت أن تُحفظ بعيدًا عن ضجيج الناس.» التفتت نُورا إلى حسام: «هل التسجيل موجود؟» قال: «موجود. لم ينقطع. كل شيء موثّق.» ثم استأذن من الجميع احترامًا وغادر المكتب. هنا استقرت الوقائع على أرض صلبة: لا تلاعب تقني، ولا لغز مصطنع، بل حقيقة خرجت دفعة واحدة، وتفرض أن تُعاد الحسابات من الصفر. ⸻ وفي تلك اللحظة دخل ناصر. دخل لا بوصفه عابرًا، بل بوصفه من أهل البيت الاقتصادي: أخو يوسف، وصاحب حصة في الشركة، والمدير التنفيذي، وصوته لا يُعامل كصوت ضيف. توقّف عند العتبة لحظة، رأى وفاء، ثم نُورا، ثم الخزنة المفتوحة، وقال بهدوء مشدود: «ما الذي يحدث هنا؟» أجابت نُورا قبل الجميع: «حدث ما يغيّر أصل القسمة. أُخرج ملف من الخزنة… لا لأنه ميراث، بل لأنه حق باسمٍ آخر.» قال ناصر: «وباسم من؟» قالت وفاء ببساطة الحقائق حين تُقال بلا تزيين: «باسمي. وأنا زوجة أخيك الشرعية.» لم ينفجر ناصر، ولم يرفع صوته. الرجال حين تُصدم حساباتهم لا يصرخون دائمًا؛ أحيانًا يصمتون… ويبدؤون بوزن العالم بميزان جديد. قال بعد لحظة: «إن صحّ هذا، فالمسألة ليست ميراثًا فحسب. إنها شركة، وسمعة، وحقوق، وكلام سيقال.» رفعت نُورا يدها إشارة هادئة، لا لقمع أحد، بل لتنظيم الفوضى قبل أن تولد: «ولهذا تحديدًا… من الآن فصاعدًا: كل إجراء يُوثّق، بخطاب رسمي، ولا قسمة تُستعجل، ولا كلمة تُقال خارج الإطار القانوني.» ثم التفتت إلى روان وقالت: «أبلغي فهد: الغد اجتماع رسمي. كل الأطراف معنية بالحضور.» أومأت روان سريعًا. أما وفاء، فلم تبدُ خائفة. بدت كمن قال الحقيقة، وقرر أن يتحمّل ثمنها. وقبل أن تغادر نُورا جناح يوسف، وقفت لحظة أمام باب مكتبه، نظرت إلى الخزنة وقد أُغلقت، ثم قالت في سرّها: لم يكن الموت هو الحدث الأهم… بل ما كشفه. وانتهى اليوم، لكن الحكاية—على الحقيقة—بدأت. |
(الفصل الرابع) القِسمة التي لا تُشبه العدل
مرّت سبعة أشهر منذ رحيل يوسف،
سبعة أشهر لم تكن زمنًا عاديًا في حياة عائلته ولا في عمر شركته. كانت زمنًا من الملفات المفتوحة، والمراجعات الطويلة، والاتصالات التي لا تنتهي، زمنًا عملت فيه نُورا ليلًا ونهارًا كي تُخرج التركة من الفوضى إلى النصّ، ومن الشكّ إلى الوثيقة. وفي مساءٍ هادئٍ على غير عادة البيوت حين تُقاسَم التركات، انعقد الاجتماع في بيت يوسف. لم يكن بيتًا فخمًا فحسب، بل ذاكرةً معلّقةً في الجدران: صوتٌ غائب، وخطواتٌ توقفت، وصورٌ لا تعرف كيف تتصرّف بعد الموت. اجتمع الورثة جميعًا في المجلس الكبير. فهد جلس في صدر المكان، مستقيم الظهر، شديد التحفّز، وسالم إلى جانبه بصمتٍ يشبه الحذر، وليان في الطرف الأقرب إلى النافذة، لا ترفع رأسها كثيرًا، وناصر على مقربةٍ منهم، ساكنًا كأنه يزن كل نفسٍ في الغرفة، ووفاء حاضرةٌ بهدوئها الذي صار يسبقها؛ جمالٌ لا يطلب انتباهًا، لكنه يأخذه، وعطرٌ يمرّ كأنه يوقّع على الهواء دون أن يكتب حرفًا. دخلت نُورا بعدهم بقليل. لم تدخل بصخبٍ ولا بمراسم، دخلت ومعها حقيبةٌ ثقيلة، ليست حقيبة أوراقٍ فحسب، بل حقيبة سبعة أشهر كاملة من التعب، والبحث، وتصفية الالتزامات، وضبط الذمم. وضعت الملفات أمامها، وفتحت الصفحة الأولى. لم تبدأ بكلمات عزاء، ولا بمقدّماتٍ تُخفف وقع اللحظة، قالت بهدوءٍ واضح: «اليوم اجتماع الإقفال. ما سبق هذا اليوم كان جمعًا وتدقيقًا وتسويةً والتزامًا بالقانون. وهذه الأوراق هي الصورة النهائية، كما يقتضي النظام.» لم يكن صوتها حادًا، لكنّه كان صوت من يعرف أن اللين في هذه المواضع قد يتحوّل إلى فوضى. شرحت نُورا بنبرةٍ ثابتة ما يخصّ القسمة: ما يدخل في التركة، وما خرج منها بحكم الملكية المستقلة، وما يتعلّق بالشركة وحصصها والتزاماتها. كان فهد يقلب نظره بين السطور كما لو أنه يريد أن يسبقها إلى الجملة التي تخصّه، وسالم يصغي دون حركة، أما ناصر فكان يُصغي بعينين لا تتوتران، لكنه لا تغفلان. وفاء لم تُقاطع. وجودها وحده كان كافيًا ليصنع توترًا غير منطوق، توترًا لا تصنعه الكلمات، بل تصنعه الحقائق حين تُقال متأخرة. وحين انتهت نُورا من الشرح، قالت الجملة التي تُغلق الأبواب: «بهذا، تكون القسمة قد تمت على وجهها، والاعتراض بعدها لا يكون بالكلام، بل بالإجراءات الرسمية. وأنا لا أرى موجبًا لذلك… لأن كل بندٍ موثّق.» ساد صمت قصير. ثم بدأ التوقيع. تقدّم فهد أولًا، وقّع بيدٍ ثابتة، لكنه لم يكن مرتاحًا. تقدّم سالم بعده، وقّع كمن يوقّع على شيءٍ أكبر من الورق. ثم ناصر، توقيعه كان هادئًا، كأنه يضع خطًا تحت مرحلةٍ كاملة. ثم وفاء… وقّعت دون أن تغيّر ملامحها، كأنها تعوّدت أن تواجه العالم بوجهٍ واحد. وأخيرًا بقيت ليان. وقفت ليان. مشَت إلى الطاولة ببطءٍ محسوس، نظرت إلى الورقة، ثم إلى اسم أبيها المطبوع في أعلاها، كأنها ترى يوسف للمرة الأولى بعد موته على هيئة سطر. لم ترتجف يدها. لكن عينيها خانتها لثانية. وقّعت. ثم عادت إلى مكانها، وكل شيءٍ فيها يقول إن شيئًا لم ينتهِ. انتهى الاجتماع رسميًا. نهض الورثة واحدًا تلو الآخر، بعضهم تحدّث بكلماتٍ قصيرة، وبعضهم اكتفى بالصمت، ثم تفرّقت الخطوات في البيت كما تتفرّق النيات في لحظة واحدة. بقيت نُورا وحدها تجمع الملفات وتعيد ترتيبها. كانت تعرف أن الأوراق تُغلق، لكن القلوب لا تُغلق معها. وبينما هي تُغلق الحقيبة، سمعت صوتًا خافتًا في الممرّ—ليس صوت حديث، بل صوت بكاءٍ حاول أن يُخفى وفشل. رفعت رأسها. لم تتحرّك بسرعة، تحرّكت بوعي. خرجت إلى الممرّ، فرأت ليان واقفة قرب الجدار، ظهرها إلى الضوء، ووجهها إلى الظل، كأنها اختارت المكان الذي يسمح لها أن تنهار دون جمهور. كانت دموعها تنهمر بغزارة شديدة، لا دمعة واحدة ولا اثنتين، بل موجٌ كامل كأن السبعة أشهر كلها قررت أن تتكلم في دقيقة واحدة. لم تسألها نُورا: “ماذا بكِ؟” لأن السؤال هنا لا يزيد إلا ثقلًا. اقتربت منها، وفتحت ذراعيها بهدوء، وضمّتها إلى صدرها. عناقٌ صامت، عناق امرأة تعرف أن بعض الانهيارات لا تحتاج خطابًا، بل تحتاج أن يُسمح لها أن تكون. ازداد بكاء ليان. تشبثت بنُورا كما يتشبث الإنسان بأول شيءٍ آمنٍ يراه في لحظة غرق. قالت ليان بصوت متقطّع، يخرج بين شهقةٍ وأخرى: «أنا… أنا السبب يا نُورا… أنا التي أدخلتها إلى حياتنا…» شدّت نُورا على كتفيها برفق، ولم تقاطعها. تابعت ليان، وقد خرج الاعتراف كأنه يُنتزع من قلبها: «كنت أراها صديقة… كنت أظن أنني أفعل خيرًا… أنا التي زكّيتها… أنا التي فتحت لها باب الشركة… قلت لهم: وفاء أمينة، وفاء تستحق فرصة…» اختنق صوتها، ثم قالت الجملة التي كانت تؤلمها أكثر من كل شيء: «ثم… تزوجت أبي سرًا… وأصبحت زوجته الشرعية… وأصبحت تملك… كل هذا…» لم تقل “مالًا” فقط. قالت الكلمة كما لو أنها تعني شيئًا آخر: مكانًا، اسمًا، قربًا، حقًا لا يُردّ. رفعت ليان رأسها قليلًا، وعيناها غارقتان، وقالت: «كيف جلست معي؟ كيف ضحكت معي؟ كيف كانت تسمعني أتحدث عن أبي… ولا تقول شيئًا؟» لم تُجب نُورا باسم وفاء، ولم تدافع، ولم تُدن. قالت بصوتٍ خافتٍ واضح: «لأن الصمت يا ليان… ليس دائمًا شجاعة، وأحيانًا يكون طريقة بعض الناس ليحموا أنفسهم… ولو على حساب الآخرين.» هزّت ليان رأسها، كأنها ترفض الفكرة وتؤمن بها في آنٍ واحد، وقالت: «أنا لا أكرهها… لكنني أشعر أنني خُدعت… لا بالقانون… بل بالمشاعر.» بقيت نُورا لحظة صامتة، ثم قالت جملة واحدة لم تُزخرفها، لأن الزخرفة هنا قسوة: «الوجع الحقيقي ليس فيما أُخذ منكِ… بل فيما أعطيتِه وأنتِ مطمئنة.» انهارت ليان مرة أخرى، لكن انهيارًا أقل فوضى، كأنها سمعت أخيرًا وصفًا صادقًا لجرحها. تنفست بعد وقتٍ طويل، ثم همست: «أشعر أنني تغيّرت.» مسحت نُورا دموعها بإبهامها، وقالت: «لم يتغير كل شيء… أنتِ فقط كبرتِ فجأة. وهذا مؤلم… لكنه حقيقي.» ظلّتا على تلك الحال لحظات. ثم ابتعدت ليان قليلًا، لا لأنها شُفيت، بل لأنها لم تعد وحدها في الألم. وعندما عادت نُورا لتجمع حقيبتها، كانت تعرف أن اجتماع القسمة انتهى في بيت يوسف، لكن شيئًا آخر بدأ هناك… شيءٌ لا يُكتب في المحاضر، ولا يُوقّع عليه أحد، ومع ذلك… يقرر مصائرهم جميعًا وتمضي الأيام… |
حيث تهطل ينمو الإبداع بين السطور،
نحن لا نقرأ بل في زاوية من النص نعيش الحكاية ونبحث عن نهاية تليق هذه القصة. اسكادا لا يبحث عن تصفيق ، بعيد عن الأضواء يكتب الأضواء بكل حكمة ووعي ودقة ، يعي أن التصفيق يبحث عن الذي يعرف متى يكتب وكيف يكتب وأين يتوقف. حقيقة جذبني العنوان فُدهشت بالمضمون؛ ثقيل جميل ومثير.. قصصك دائمًا تتناول قضايا المجتمع بطريقة نعيد النظر بكل تصرف قد يبدر منا بالمواقف المشابهة بما أنها لم تنتهي سأنتظرك هنا حيث لا يجاريك أحد .. أنتظرك بشغف . تختم لأن كاتبها مميز. |
(الفصل الخامس) ما بعد القِسمة: بابٌ يُغلق… وأثرٌ يبقى
انتهت القسمة على الورق،
لكن ليان، في تلك الليلة، لم تشعر أنها خرجت من اجتماعٍ، بل خرجت من نفسها. عاد البيت إلى هدوئه تدريجيًا. تفرّقت الأصوات، وانطفأت المجاملات، وبقي في الممرّ طيفٌ ثقيل لما لم يُقَل. كانت تعرف أن البكاء لا يعيد شيئًا، لكنها كانت تعرف أيضًا أن القلب، حين يُخذَل، يحتاج أن يُسمَع ولو بصمتٍ طويل. في صباح اليوم التالي، اتخذت قرارًا واضحًا. لن تمكث في البيت تُعيد اجترار الصور، ولن تكتفي بالظنون وهي قادرة على التثبّت. ستذهب إلى الشركة… لا للعمل، ولا للاستعراض، بل لتتأكد من أمرٍ واحدٍ فاصل: أن استقالة وفاء لم تُوقَّع فحسب، بل أُغلِق معها كل ما يُبقيها “حاضرة” في مفاصل الإدارة. لم تكن ليان تريد الانتقام. كانت تريد إغلاق الباب بإحكام، لأن بعض الأبواب إن تُركت مواربة تعيد الفوضى من حيث لا يشعر أحد. ⸻ بدت الشركة من الخارج كما هي: مبنى كبير، حركة متواصلة، ووجوه تعرف طريقها. في عالم المقاولات لا يتوقف الزمن احترامًا للأحزان، لكنه يزداد قسوة حين تختلط فيه السلطة بالذاكرة. صعدت ليان إلى الطابق الإداري، ودخلت مكتب فهد بعد استئذانٍ مختصر. رفع رأسه، وبدا أنه لم يتوقع حضورها بهذه السرعة. قالت بهدوءٍ مشدود: «جئت لأتأكد من أمرٍ واحد.» فهم قبل أن تُكمل. وأجاب دون مواربة: «تمّ توقيع الاستقالة. واعتمادها. وانتهى الأمر إداريًا.» لم تكتفِ ليان بالجملة. فهي تعلّمت خلال الأشهر الماضية أن بعض “النهايات” لا تكون نهائية إلا حين تُغلق تفاصيلها الصغيرة. سألته بنبرة دقيقة: «الصلاحيات؟ الدخول؟ الوصول للملفات؟» زفر فهد زفرة قصيرة، ثم قال: «أُغلِقت كلها. بطاقة الدخول أُلغيَت. الوصول للنظام توقّف. ولا يوجد لها أي صلاحية تنفيذية بعد اليوم.» صمتت ليان لحظة، ثم قالت جملة واحدة خرجت من وجعٍ منضبط: «لا أريد أن يبقى في الشركة شيءٌ يذكّر بمنصبٍ لم يعد له معنى.» لم يجادلها. هزّ رأسه، وقال: «أفهمك.» وقبل أن تقوم، أضاف—كأنه يقدّم تفسيرًا لا تريده: «أما الحقوق المالية… فتعرفين أن ذلك يُحوَّل مباشرة إلى حسابها. هي ليست ممن ينتظرون “مستحقات” على مكتب.» أومأت ليان. لم تكن هذه الجملة مفاجئة؛ وفاء—بثروتها وما آلت إليه الأمور—لا تحتاج أن تعود لتأخذ شيئًا. ومع ذلك، كان المهم عند ليان ليس المال… بل الأثر. نهضت لتغادر. قال فهد خلفها: «ليان… أعلم أن الأمر أثقل عليكِ مما يبدو.» لم تلتفت. اكتفت بقولٍ هادئٍ موجع: «الأصعب أننا نبدو بخير… ونحن لسنا كذلك.» وغادرت. ⸻ في طريقها إلى المصعد، لم تكن تبحث عن أحد، ولم تخشَ لقاء أحد. وفاء لم تعد تعمل هنا، وهذا وحده كان جزءًا من الاطمئنان المؤقت. لكن الاطمئنان المؤقت لا يشفي. عادت ليان إلى سيارتها، جلست لحظة قبل أن تدير المحرك، وشعرت بأن قلبها—رغم كل ما فعله العقل— ما زال يحمل حطامًا لا يُرمَّم بالقرارات الإدارية. فتحت هاتفها بلا وعي. تصفّحت الأسماء، ثم توقفت عند اسمٍ واحد كانت تخفيه في أعماقها كما تُخفى الأشياء الجميلة خوفًا عليها: حبيبٌ سرّي، لم يُعلَن يومًا، ولم يُختبر يومًا على حافة الألم. لم تكتب له. ولم تتصل. وضعت الهاتف جانبًا، كأنها تخشى أن تُحمِّله ما لا ذنب له فيه، أو أن تكشف ضعفًا لا تريد لأحد أن يراه. ⸻ في المساء، اتصلت نُورا. قالت بصوتٍ ثابت: «علمتُ أنكِ ذهبتِ إلى الشركة.» أجابت ليان: «ذهبتُ لأتأكد أن الباب أُغلِق كما ينبغي.» سألتها نُورا: «وهل أُغلِق؟» قالت ليان: «أُغلِق… إداريًا.» صمتت نُورا لحظة، ثم قالت: «هذا جيد. لكن تذكّري: بعض الأبواب تُغلق بالمفاتيح… وبعضها لا يُغلق إلا بالوقت.» قالت ليان بصوتٍ خافت: «أنا خائفة يا نُورا.» سألتها: «ممّ؟» قالت ليان: «من نفسي… من أن أكره، من أن أتغير إلى امرأة لا أعرفها.» قالت نُورا بهدوء العارف: «ستتغيرين… نعم. لكن ليس كل تغيرٍ سقوطًا. أحيانًا… هو نجاة.» أغلقت ليان الهاتف بعد دقائق، وجلست وحدها في غرفتها. لم تبكِ، ولم تنهَر، لكنها شعرت بأن هناك قصةً أخرى تختبئ في قلبها… لم تُفتح صفحتها بعد. — نهاية الفصل الخامس — |
(الفصل السادس) مابعد العِدّة: حين يختبر القلب ما لا يختبره القانون
كان المساء هادئًا على غير عادته،
هدوءٌ لا يطمئن بقدر ما يُنذر. في بيت ليان كانت الأشياء في أماكنها، لكنّها لم تكن كما كانت. حتى الضوء الذي ينساب من المصباح فوق الطاولة كان يبدو وكأنه يتردد قبل أن يستقر. في غرفة ليان تحديدًا، حيث اعتادت أن تختبئ حين يضيق العالم، جلست على طرف سريرها وقد وضعت هاتفها قربها كأنه شاهدٌ صامت. لم تكن تنتظر رسالة بعينها، لكن قلبها كان يتصرف كما لو أنه يتوقع صدعًا جديدًا. طرقةٌ خفيفة على الباب، ثم دخلت نُورا. لم تدخل بصوتٍ أو بترتيبٍ رسمي، دخلت كما تدخل امرأة تعرف الطريق إلى الروح قبل الغرفة. كانت تحمل في يدها ملفًا رقيقًا، لا يكاد يُرى، لكن ليان فهمت فورًا أن ثقل الأشياء لا يُقاس بسمك الأوراق. قالت نُورا بصوتٍ منخفض: «هل أنتِ بخير؟» ابتسمت ليان ابتسامة قصيرة، لا تصلح جوابًا، ثم قالت: «أنا… أحاول.» جلست نُورا على الكرسي القريب، لم تفتح الملف، ولم تتعجل الحديث. تأملت وجه ليان لحظة، ثم قالت بنبرةٍ تعرف متى تُخفف ومتى تُصارح: «انتهت العِدّة يا ليان.» لم تكن الجملة مفاجئة؛ كانت تعلم ذلك من التاريخ، لكن سماعها بصوت نُورا جعلها أشبه بختمٍ نهائي على مرحلة كاملة. قالت ليان بصوتٍ خافت: «أعرف.» سكتت نُورا ثانية، ثم أضافت: «وفاء ستتزوج.» لم تتحرك ليان. لم تبدُ عليها غيرة، ولا دهشة، ولا غضب. كأن الخبر مرّ في الهواء ولم يجد مكانًا يهبط فيه. قالت بهدوءٍ باهت: «هذا شأنها.» أومأت نُورا، لكنها لم تُغلق الملف بعد. كان في داخلها شيءٌ تعرف أنه سيكسر التوازن. قالت ببطءٍ محسوب: «الرجل… وسيط عقاري كبير. تعاملنا معه في أكثر من ملف خلال الأشهر الماضية.» هنا ارتفعت عينا ليان قليلًا. ليست حركة خوف، بل حركة انتباه. فالوسيط العقاري كان اسمًا تعرفه… لا معرفة حياة، بل معرفة عمل. كان يأتي إلى الشركة، يتحدث بوقار، يحمل أرقامًا لا مشاعر فيها، ويخرج كما دخل: كأنما لا يترك خلفه سوى رائحة الورق. قالت ليان: «نعم… أتذكره.» ترددت نُورا لحظة، ثم قالت الاسم كاملًا، كما يُقال الاسم حين يُراد له أن يكون حقيقة لا احتمالًا. ما إن سمعت ليان الاسم حتى حدث شيءٌ لا يراه إلا من عاش مع البشر طويلاً: انقطع النفس نصف انقطاع، وتقلّصت المسافة بين عينيها وكأن الغرفة ضاقت. لم تسقط دمعة فورًا. لم تصرخ. لم ترتجف. بل ساد صمتٌ عميق كأن صوتًا داخليًا قال لها: هذا ليس ممكنًا. رفعت ليان نظرها إلى نُورا ببطء، وقالت بصدقٍ خالٍ من الزينة: «لماذا تقولين هذا الآن؟» أجابت نُورا: «لأني رأيت من حقك أن تعرفي قبل أن تسمعيه من الناس.» قالت ليان، وكأن الكلمات خرجت من مكانٍ بعيد: «هو… لم يكن شيئًا في حياتي. لم أقابله خارج العمل.» هزّت نُورا رأسها: «أعرف. وأنا لا أقول إن بينكما شيئًا… أنا أقول إن هذا الخبر قد يوقظ فيكِ شيئًا لم يُقل.» لم تُنكر ليان. ولا اعترفت فورًا. أدارت وجهها نحو النافذة، نظرت إلى العتمة كما لو أنها تبحث عن يوسف هناك. قالت بعد لحظة طويلة: «كنتُ ابنته المدللة… أليس كذلك؟» لم تجب نُورا بسرعة، كأنها تحترم الجملة قبل أن تمسها. ثم قالت: «كنتِ الوحيدة التي لا يرد لها طلبًا.» ابتسمت ليان ابتسامة موجوعة: «كان يضحك حين أغضب، ويصمت حين أحزن، وكأنه يخاف أن تزداد دموعي. كنت أظن أنني أعرفه… وأكتشف الآن أنني لم أعرف حتى حدود قلبه.» سكتت لحظة، ثم قالت بصوتٍ هادئ لكنه مُثقَل: «ذلك الرجل… لم يكن شيئًا واضحًا. كان… احتمالًا. كنت أراه في الشركة، وأشعر بشيءٍ لا أسمّيه. وحين أعود إلى البيت أقول: لا تفتحي بابًا جديدًا… يكفيكِ ما في حياتك.» ثم التفتت إلى نُورا، وعيناها تمتلئان لا بالدموع وحدها بل بشيءٍ أشد: إحساس أن العالم يسرق منك حتى ما لم تأخذه. قالت: «كيف يحدث هذا يا نُورا؟ كيف يصبح ما لم أعشه… خسارة؟» اقتربت نُورا منها قليلًا، ولم تتحدث كمحامية، بل كامرأة تعرف أن القلوب تتألم حتى من الاحتمالات. قالت بهدوء: «لأن القلب لا يخسر الوقائع فقط، بل يخسر الأمل أيضًا. وأحيانًا… نخسر أمورًا لم نمتلكها أصلًا، لكننا كنا نُعدّ لها مكانًا في الداخل.» انهمرت دموع ليان هذه المرة، لكنها لم تكن دموع انهيار، كانت دموع فهمٍ متأخر. رفعت يدها إلى وجهها كأنها تحاول أن تمنع الألم من الظهور، ثم قالت، وهي تبكي بصمت: «أنا لا أريده… لكني لا أحتمل أن تملكه هي. ليس لأنها تستحق أو لا تستحق… بل لأن ذلك يعني أنني… لا أملك شيئًا لي وحدي في هذه الحكاية.» ضمّتها نُورا إلى صدرها كما فعلت من قبل، عناقًا صامتًا لا يبرر ولا يحاكم، ثم قالت في أذنها: «ستملكين نفسك يا ليان. وهذا أعظم ما يملكه إنسان.» ابتعدت ليان قليلًا، نظرت إلى نُورا بعينين متعبتين، وسألت السؤال الذي يشبه طفولةً صغيرة لا تزال عالقة في داخلها: «هل أبي… كان يعرف؟» أجابت نُورا بصدقٍ لا يجرح أكثر مما يجب: «لا أعلم. لكنني أعلم شيئًا واحدًا: يوسف لم يكن يكرهك، ولم يكن يريد لكِ ألمًا. بعض الناس يخفون حياتهم لا لأنهم قساة، بل لأنهم يظنون أنهم يحمون من يحبون… ثم يكتشفون متأخرًا أن الحماية قد تكون جرحًا آخر.» سكتت ليان طويلًا. ثم قالت بصوتٍ أقرب إلى الهمس: «إذن انتهت الحكاية؟» قالت نُورا: «انتهت صفحة… وبدأت أخرى. ليس كل نهاية هزيمة، يا ليان. أحيانًا… هي نجاةٌ من شيءٍ كان سيؤلم أكثر.» تنفست ليان بعمق، كأنها تحاول أن تجمع نفسها من جديد. ومع أن الدموع بقيت على وجهها، إلا أنها شعرت للمرة الأولى منذ شهور أنها تستطيع أن تقف دون أن تتظاهر. في تلك الغرفة الصغيرة، بين امرأةٍ تعلّمت القانون حتى صارت قادرة على ترتيب الخراب، وفتاةٍ تعلّمت الألم حتى صار قادرًا على ترتيبها، انتهت الحكاية كما بدأت: بشيءٍ لم يكن الموتُ هو عنوانه، بل ما كشفه الموت من وجوهٍ وحقائق… ومن قلوبٍ تخسر بصمت ثم تتعلم كيف لا تموت. — نهاية القصة — |
الخاتمة ..
لم أكن واحدًا منهم… ومع ذلك كنتُ حاضرًا.
في البيوت الكبيرة، لا يُسمَع كل شيءٍ في المجلس، لكن كل شيءٍ يترك أثره في الأوراق: توقيعٌ واثق، سطرٌ ناقص، تاريخٌ وُضع في غير مكانه عمدًا، وبابٌ أُغلق أسرع مما ينبغي. هكذا بدأتُ أعرف. لا من حكايات تُقال في المقاهي، ولا من ظنونٍ تتكاثر في العزاء، بل من الحقيقة حين تُمسكها بيدك: ملفٌ أصفرُ الحواف، ختمٌ جافٌّ على ورقةٍ ثقيلة، أرقامٌ تُكتب ببرودٍ بينما تُنهك روحًا كاملة خلفها. كنتُ أعمل في المسافة التي لا يراها الناس: حيث تُصفّى التركات على مهل، وتُسدد الالتزامات، وتُقرأ الخرائط كما تُقرأ الجروح: بدقةٍ لا تسمح بالوهم. ثم جاءت نُورا. لم تأتِني كمن يروي قصة، بل كمن يُسلّم شاهدًا أخيرًا إلى رجلٍ يعرف قيمة الشهادة. كانت تحمل الحقيقة في شكلها الأقسى: حقيقةٍ لا تُدين وحدها، ولا تُبرئ وحدها، بل تترك الجميع على حافة سؤالٍ واحد: كيف يمكن لشيءٍ صحيحٍ في القانون أن يكون موجعًا إلى هذا الحد؟ سألتها مرة: لماذا تريدين أن تُكتب هذه الحكاية؟ لم تجبني عن “وفاء”، ولا عن “ليان”، ولا عن “فهد”، ولا عن “سالم”، ولا عن “ناصر”. قالت فقط، وكأنها تُغلق ملفًا أخيرًا: «لأن الصمت حين يطول… يصبح شريكًا.» منذ تلك الجملة، عرفت أن دوري ليس أن أبحث عن مذنب، ولا أن أقيم محكمة للنوايا، بل أن أضع هذه القصة أمامك كما هي: أسماءٌ لم تختر مواقعها، وحقائقٌ خرجت متأخرة، وقلوبٌ اكتشفت أنها تخسر حتى ما لم تملكه يومًا. قد تسألني: هل حُذفت تفاصيل؟ نعم. ليس خوفًا من أحد… بل احترامًا لشيءٍ لا تُقاس قيمته بالمعلومة: احترام الجرح. ولهذا أيضًا، غُيّرت بعض الأسماء، وتبدّلت ملامح أماكن بعينها، لا لتخفيف وقع الحقيقة، ولا لإعادة تشكيلها، بل حفاظًا على خصوصية من عاشوها، كي تبقى الحكاية صادقة دون أن تتحوّل إلى كشفٍ جارح. فالقصص التي تُروى بضمير لا تحتاج أن تفضح أصحابها، يكفيها أن تُنقذ معناها. وإن سألتني: هل انتهت الحكاية حقًّا؟ الحكايات لا تنتهي دائمًا حين يُغلق الناس الأبواب، بل حين يتوقف الألم عن طلب تفسير. لهذا كتبتها. وبهذا أُسلّمها إليك: لا كقصة ميراث… بل كقصةٍ عن الإنسان حين يسقط عنه القناع الأخير، ويبقى وجهه وحده… صادقًا… ومرهقًا… وحقيقيًا. — انتهت — اسكادا :000: |
تثبت لمدة حتى يستمتع بها الجميع
انتظرني برد آخر يشمل القصة بأجزائها شكرا على ابداعك هنا. |
ربي يحفظك اسكادا
انت يبي لك كتاب كامل اسمه ( نزف الابداع ) يسعدك ربي اخوي اسكاداااا |
ياعساك تسلم اسكادا. مبدع بكل المجالات.
وفقك الله ودمت ودامت نبضات قلبك تقييم |
حقيقة قرأت القصة أكثر من مرة ،
محاولة ربط احداثها واستنتاج أجوبة للأسئلة التي طرحت برأسي ، لكن كل حدث يترك صدمة من الدهشة تزرع السؤال بقلب الإجابة.. تسلسلت الأحداث وطالة القصة ومن السطر الاول إلى الأخير لم يقل الإبداع وهذا يدل على أنها كاتبها محترف... كأنك تحاول اخبارنا بأن الثقة لا تمنح لكل فرد،. وبعض الأحداث ليست إلا خلع للأقنعة. وأن المال جذب وفاء دون وفاء وبعض الخسارات هي ممر لكسب أنفسنا. |
الغالي اسكاداهلا بالطله
مشرفنا الراقي إنك مبدع ولا يجاريك أحد هو الشيء الذي لا اختلاف فيه قصصك تحمل رسائل بين السطور وتهدف إلى أن نكون أقل مادية وأكثر وفاءً ومسؤولية وأنت خير مرشد لتلك الطرق السليمة وهذا شيء يزيدك عظمةً وسموًّا وجهودك بقيادة الأقسام الأدبية جهود تشكر عليها لكن إن عجزنا عن شكرك هل يرضى قلبك الطاهر بكلمات أقل من عطاءك لكنها تحمل امتنانًا عظيمًا لشخصك تقييمي لشخصك الكريم |
| الساعة الآن 03:26 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2010