الموضوع: الورثة
عرض مشاركة واحدة
قديم 12-23-2025, 08:01 PM   #3
ملكة الإستطبل


الصورة الرمزية اسكادا
اسكادا غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 12377
 تاريخ التسجيل :  Nov 2008
 أخر زيارة : يوم أمس (06:25 AM)
 المشاركات : 1,706 [ + ]
 التقييم :  28290
 الدولهـ
Saudi Arabia
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Cadetblue

معرض الوسام

1 (الفصل الثاني) نُورا: الشاهدة التي لا تُورِّث



وصلها خبر وفاة يوسف في الصباح،
كخبرٍ يبدو عاديًا في صياغته…
لكنّه يُغيّر حياةً كاملةً في جوهره.

لم تصرخ نُورا، ولم تتجمّد.
اكتفت بأن أغلقت الهاتف بهدوء،
ثم بقيت لحظةً تحدّق في الفراغ،
كما لو أنها تُعيد ترتيب الأشياء في رأسها قبل أن تتحرّك.

لم تكن نُورا من العائلة،
ولا من الورثة،
لكنها كانت تعرف تفاصيلهم أكثر مما يعرف بعضهم بعضًا.

كانت محامية يوسف.
المرأة التي سلّمها أوراقه حين كان “الوقت مناسبًا”،
وأجّل معها أمورًا كثيرة إلى “وقتٍ لاحق”…
ثم جاء الموت وألغى كل المواعيد.

على مكتبها، كان ملفه حاضرًا كأنه لم يغادره أمس:
عقود، مكاتبات، أرقام، وملاحظات بخطٍ حادّ،
وفي أعلى الصفحة الأولى سطرٌ كتبه يوسف ذات يوم:

«لا تُعقّدي الأمور… العدل واضح.»

ابتسمت نُورا ابتسامةً قصيرة، بلا فرح.
العدل واضح… نعم،
لكن البشر ليسوا كذلك.

حين يموت رجل ويترك ثروة دون وصيّة،
لا يختلف الناس على المال فقط،
بل يختلفون على ما كان يظنّه كلٌّ منهم “حقًا طبيعيًا”.
ويصبح كلُّ ماضي العلاقة دليلَ إثبات،
وكلُّ كلمةٍ قديمة سلاحًا جديدًا.

جمعت نُورا الملف، ووضعته في حقيبةٍ سوداء.
ثم أخرجت ورقة صغيرة كانت مدسوسة بين الصفحات،
ورقة لم تكن ضمن الأوراق الرسمية،
مجرد قصاصة كتب فيها يوسف بخطٍ أسرع من عادته:

«إن حصل لي شيء… لا تسمحي لهم أن يستعجلوا القسمة.»

توقفت عند الجملة طويلاً.
لا تسمحي لهم أن يستعجلوا…
من “هم”؟ ولماذا؟
ولماذا كتبها هنا، بلا توقيع ولا تاريخ؟

لم تسأل نفسها كثيرًا.
المحاماة علّمتها أن الأسئلة التي تكثر…
تكون غالبًا هي الطريق الصحيح.



وصلت إلى الاجتماع بعد الظهر.
لم تدخل كضيفة،
دخلت كمن يحمل ضوءًا لا يحبه أحد.

كانت الغرفة مزدحمة بحضورٍ مصطنع:
أصوات منخفضة، سلامٌ متقطع،
وابتسامات متعبة تحاول أن تبدو لائقة بالمقام.

رأت سالم أولًا.
جلس كما يجلس من لا يريد أن يُسجّل عليه شيء،
هادئًا… لكن ليس مرتاحًا.
الهدوء عنده ليس طبعًا فقط،
بل جدار حماية.

ثم رأت ناصر.
صامت في الطرف، لا يتحرك كثيرًا،
لكن عينيه تعملان بلا توقف،
كأنه يكتب المشهد كله في ذاكرته لليوم الذي سيحتاجه فيه.

ليان كانت قريبة من الباب،
كأنها تريد الهرب وتريد البقاء في الوقت نفسه.
أما فهد…
فكان يُدير الجلسة دون أن يقول إنه يديرها.
النوع الذي يضع القرار داخل السؤال،
ثم يبتسم كي يبدو الأمر خيارًا للجميع.

حين بدأ الحديث عن “التقسيم”،
خرجت الكلمات كما تخرج عادةً بعد الوفاة:
بصيغة محترمة…
وبقلبٍ متعجّل.

قال أحدهم:
«خلّونا ننهي الموضوع بسرعة… الناس ما تبي وجع رأس.»

وقالت أخرى:
«الموضوع واضح… ما فيه وصيّة، خلّونا نوزّع ونرتاح.»

لم تتحرك نُورا.
تركت الجمل تمرّ،
ثم فتحت حقيبتها ببطء،
وأخرجت الملف ووضعته على الطاولة.

كان الصوت الوحيد الذي سمعوه جيدًا
هو صوت الورق حين لامس الخشب.

رفعت عينيها وقالت بهدوءٍ لا يرفع صوته، لكنه يفرض نفسه:

«اللي ما فيه وصيّة…
ما يعني إنه ما فيه حقوق.»

ساد صمتٌ قصير.

تابعت بنفس النبرة:
«قبل القسمة… لازم نعرف الذمم:
ديون، التزامات، شراكات، مستحقات…
أي شيء باسم يوسف ما ينتهي بموته.
المال اللي تبي تقسمونه…
مو كله قابل للقسمة اليوم.»

فهد ابتسم ابتسامةً صغيرة،
وقال كأنه يربّت على الكلام:
«كلامك صحيح… بس لا نطوّل. الناس تبي حل.»

نُورا لم تنظر إليه مباشرة.
فتحت صفحةً في الملف وقالت:
«الحل السريع… غالبًا يصير مشكلة أطول.»

ثم التفتت إلى سالم، لا كاتهام، بل كاستدعاء للواقع:
«آخر أسبوعين… كان يوسف يوقّع أوراقًا؟
كان يراجع حساباته؟
كان يحوّل مبالغ؟»

ارتبك سالم للحظة.
ليس خوفًا… بل لأن السؤال ضرب منطقة لا يحب الاقتراب منها.
قال: «كان… مرتب أموره، لكن ما قال لي عن شيء محدد.»

نُورا أومأت وكأنها تتوقع ذلك.
ثم قالت الجملة التي جعلت وجوهًا كثيرة تتغير دون أن تتكلم:

«إذن… لازم نعرف لماذا كتب هذه العبارة هنا.»

وأخرجت القصاصة الصغيرة.

لم يأخذها أحد،
لكن الجميع نظر إليها كما لو أنها تحمل وزنًا أكبر من الورق.

ناصر شدّ نظره على الجملة،
ثم رفع عينيه على سالم للحظة واحدة…
لحظة قصيرة،
لكنها قالت أشياء أكثر من كل الكلمات.

أما ليان،
فوضعت يدها على طرف كرسيها كمن يحتاج سندًا،
وكأنها تذكّرت شيئًا لم تكن تريد تذكره.



انتهى الاجتماع دون اتفاق.
لا لأنهم لم يريدوا الاتفاق…
بل لأن شيئًا ما، لأول مرة،
أجبرهم أن يتباطؤوا.

خرجت نُورا إلى الممر،
وأخرجت هاتفها لتستدعي سائقها.

قبل أن تكتب شيئًا،
وصلتها رسالة قصيرة من رقمٍ مجهول:

«تم فتح صندوق يوسف اليوم…
وفيه مستند ناقص.
تعالي فورًا.»

توقف الهواء حولها لحظة.
لم تتراجع،
لم تتوتر،
لكن عينيها تغيّرتا.

أغلقت الهاتف،
وشدّت حقيبتها،
ثم قالت لنفسها بصوتٍ لا يسمعه أحد:

«الآن… بدأت الحكاية.»



 
 توقيع : اسكادا

أنا هنا لأفجر الصمت بكلمات، ولكني لن أضمن ماسيحدث بعدها..!


رد مع اقتباس