الموضوع: الورثة
عرض مشاركة واحدة
قديم 12-24-2025, 04:29 AM   #5
ملكة الإستطبل


الصورة الرمزية اسكادا
اسكادا غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 12377
 تاريخ التسجيل :  Nov 2008
 أخر زيارة : يوم أمس (06:25 AM)
 المشاركات : 1,706 [ + ]
 التقييم :  28290
 الدولهـ
Saudi Arabia
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Cadetblue

معرض الوسام

1 (الفصل الثالث) الخَزْنَة: حين يتقدّم الحقّ على الميراث



لم تُعنِها كلمة صندوق.
فهي تعرف أن الارتباك يبدّل الألفاظ، لكنه لا يبدّل الوقائع.
هناك شيءٌ فُتح،
وشيءٌ أُخرج من موضعه،
وهذا وحده كافٍ لأن يُستدعى العقل قبل العاطفة.

أعادت الاتصال بالرقم فورًا.
جاءها صوتٌ أنثويّ متردّد، حاول أن يستند إلى الرسمية كي يخفي ارتباكه:

«أستاذة نُورا… أنا روان، سكرتيرة في الشركة.»

توقفت نُورا نصف ثانية.
اسم روان ليس من الأسماء التي اعتادت أن تظهر في القضايا الكبيرة،
وهذا ما جعله أكثر دلالة.
فالقرارات الثقيلة كثيرًا ما تُمرَّر عبر أصواتٍ عادية
كي لا تُلفت الانتباه.

قالت نُورا بنبرة هادئة لا تقبل الالتفاف:
«من أين حصلتِ على رقمي؟»

أجابت روان سريعًا:
«الأستاذ فهد… المدير العام. قال: اتصلي بالمحامية فورًا.»

لم تسأل نُورا لماذا.
سألت السؤال الذي يختصر كل شيء:

«ما الذي فُقد؟»

قالت روان، وكأنها تزن كل كلمة قبل أن تنطقها:
«الخزنة فُتحت اليوم… وكان فيها ملف.
بعد المراجعة، قيل إن الملف لم يعد موجودًا، لأنه يحمل رقمًا متسلسلًا.
وطُلب أن تحضري قبل أن يتسع الحديث داخل الشركة.»

أغلقت نُورا المكالمة بكلمتين:
«أنا في الطريق.»



كان مقر شركة يوسف قائمًا في المدينة كأنه لا يعرف الحداد.
حركة لا تتوقف،
اتصالات لا تنتظر،
ومشاريع تمضي كما لو أن الموت حدثٌ يمكن تجاوزه في جدول الأعمال.

في عالم المقاولات،
لا يتوقف الزمن احترامًا للغياب،
لكن الغياب أحيانًا يعيد ترتيب كل شيء.

دخلت نُورا المبنى بخطوات واثقة.
لم تحتج إلى تعريف،
ولا إلى تبرير.
اسمها كان جزءًا من ذاكرة المكان،
منذ عشرين عامًا وهو يوقّع على القرارات الصعبة،
ويُغلق الملفات التي لا تُغلق إلا بالعقل البارد.

لم تطلب من أحد أن يدلّها.
استدارت مباشرة،
وسارت بخطوات تعرف طريقها جيدًا
نحو الجناح الإداري العلوي،
ذلك المكان الذي شهد بدايات يوسف الأولى،
وحفظ توقيعه الأخير.



في الممر المؤدي إلى جناح مكتبه،
لمحت روان واقفة قرب المصعد.
فتاة عادية الملامح،
واضحٌ على وجهها أثر الارتباك،
كأنها أدركت متأخرة أن تنفيذ الأوامر
لا يُعفي دائمًا من تبعاتها.

قالت روان بصوت منخفض:
«أعتذر… لم أرد إزعاجك، لكن الأستاذ فهد شدّد أن يتم الأمر بسرعة.»

سألتها نُورا دون أن تتوقف:
«من حضر فتح الخزنة؟»

قالت روان:
«وفاء… السكرتيرة التنفيذية الأولى… وحسام.»

وكان ذكرُ صفتها وحده كافيًا ليُغني عن أي شرح؛
فـالسكرتيرة التنفيذية الأولى ليست موظفةً تُرتّب المواعيد،
بل عينُ الإدارة حين تغفل،
ويدُ الرئيس حين يغيب.

توقفت نُورا عند الاسم كما يتوقف العقل عند كلمة غير متوقعة،
لكنها لم تُبدِ دهشة.
ففي القضايا الثقيلة،
الدهشة ترفٌ لا وقت له.

أومأت مرة واحدة،
لا طلبًا للإرشاد، بل إيذانًا بالحسم،
وتابعت سيرها نحو جناح يوسف.



كانت وفاء هناك.

المرأة التي لم تصل إلى جناح يوسف بالصدفة،
ولا بقيت فيه بحكم العادة؛
سكرتيرته التنفيذية الأولى…
أي القريبة بما يكفي لتعرف التفاصيل،
والبعيدة بما يكفي لتبدو في نظر الآخرين
«مجرد منصب».

لم تكن واقفة كمن ينتظر الإذن،
بل كمن يعرف أن المكان يعرفه.
فاتنة الجمال على نحوٍ يُربك دون أن يستفز،
أناقتها محسوبة،
وحضورها يسبقها كما يسبق العطر صاحبه—
عطرٌ لا يصرخ،
لكنه يترك أثره طويلًا بعد المرور.

وقف حسام غير بعيد،
صامتًا كما ينبغي للشاهد أن يكون.

قالت نُورا مباشرة، دون مقدمات:
«من فتح الخزنة؟»

أجابت وفاء بثقة لا تعرف التردد:
«أنا. فتحتها أمام حسام،
والكاميرات كانت تعمل.»

ثبتت نُورا نظرها فيها.
نظرة محامية لا تتهم،
لكنها لا تُغفل الاستغراب حين يصبح واجبًا مهنيًا.

ثم سألت السؤال الذي لا يُقال عادةً بهذه الصراحة:
«ولِمَ أخذتِ الملف؟»

تغيّر شيء طفيف في عيني وفاء،
لا خوفًا… بل قرارًا.
كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة،
وتعرف أنها ستأتي مهما تأخرت.

قالت بوضوح كامل:
«لأنه يخصني أنا.
وليس لأحد من الورثة شأن به.»

قالت نُورا، وهي تشدّ العبارة لتُظهر معناها القانوني:
«وبأي صفة يخصك؟»

تقدّمت وفاء خطوة واحدة،
لا خطوة تحدٍّ،
بل خطوة تعريف.

قالت:
«الملف الذي كان في الخزنة
يحتوي على صكوك ملكية لمخططات أراضٍ بأرقام،
كلها مسجّلة باسمي.»

ساد صمت ثقيل.
ثم أضافت وفاء الجملة التي أعادت ترتيب المشهد كله في لحظة واحدة:

«وفي الملف نفسه…
عقد زواجي من يوسف.
أنا زوجته الشرعية.»

لم يكن الصمت الذي سقط صمت مفاجأة فحسب،
بل صمت إعادة توزيع:
إعادة توزيع القرابة،
والحق،
ومعنى الميراث ذاته.

قالت نُورا بعد لحظة، بنبرة قانونية ثابتة:
«زواج موثّق؟»

أجابت وفاء دون التفاف:
«موثّق. شرعي. كامل.»

سألت نُورا:
«ولِمَ لم يكن معروفًا؟»

ابتسمت وفاء ابتسامة قصيرة،
لا انتصار فيها ولا اعتذار، وقالت:
«لأن يوسف اختار الخصوصية.
وبعض الحقوق كلما عظمت قيمتها
احتاجت أن تُحفظ بعيدًا عن ضجيج الناس.»

التفتت نُورا إلى حسام:
«هل التسجيل موجود؟»

قال:
«موجود. لم ينقطع. كل شيء موثّق.»
ثم استأذن من الجميع احترامًا وغادر المكتب.

هنا استقرت الوقائع على أرض صلبة:
لا تلاعب تقني،
ولا لغز مصطنع،
بل حقيقة خرجت دفعة واحدة،
وتفرض أن تُعاد الحسابات من الصفر.



وفي تلك اللحظة دخل ناصر.

دخل لا بوصفه عابرًا،
بل بوصفه من أهل البيت الاقتصادي:
أخو يوسف،
وصاحب حصة في الشركة،
والمدير التنفيذي،
وصوته لا يُعامل كصوت ضيف.

توقّف عند العتبة لحظة،
رأى وفاء،
ثم نُورا،
ثم الخزنة المفتوحة، وقال بهدوء مشدود:

«ما الذي يحدث هنا؟»

أجابت نُورا قبل الجميع:
«حدث ما يغيّر أصل القسمة.
أُخرج ملف من الخزنة…
لا لأنه ميراث،
بل لأنه حق باسمٍ آخر.»

قال ناصر:
«وباسم من؟»

قالت وفاء ببساطة الحقائق حين تُقال بلا تزيين:
«باسمي. وأنا زوجة أخيك الشرعية.»

لم ينفجر ناصر،
ولم يرفع صوته.
الرجال حين تُصدم حساباتهم
لا يصرخون دائمًا؛
أحيانًا يصمتون…
ويبدؤون بوزن العالم بميزان جديد.

قال بعد لحظة:
«إن صحّ هذا،
فالمسألة ليست ميراثًا فحسب.
إنها شركة، وسمعة، وحقوق،
وكلام سيقال.»

رفعت نُورا يدها إشارة هادئة،
لا لقمع أحد،
بل لتنظيم الفوضى قبل أن تولد:

«ولهذا تحديدًا…
من الآن فصاعدًا:
كل إجراء يُوثّق، بخطاب رسمي،
ولا قسمة تُستعجل،
ولا كلمة تُقال خارج الإطار القانوني.»

ثم التفتت إلى روان وقالت:
«أبلغي فهد:
الغد اجتماع رسمي.
كل الأطراف معنية بالحضور.»

أومأت روان سريعًا.

أما وفاء،
فلم تبدُ خائفة.
بدت كمن قال الحقيقة،
وقرر أن يتحمّل ثمنها.

وقبل أن تغادر نُورا جناح يوسف،
وقفت لحظة أمام باب مكتبه،
نظرت إلى الخزنة وقد أُغلقت،
ثم قالت في سرّها:

لم يكن الموت هو الحدث الأهم…
بل ما كشفه.

وانتهى اليوم،
لكن الحكاية—على الحقيقة—بدأت.



 
 توقيع : اسكادا

أنا هنا لأفجر الصمت بكلمات، ولكني لن أضمن ماسيحدث بعدها..!


رد مع اقتباس