عرض مشاركة واحدة
قديم 10-16-2010, 06:39 PM   #86


الصورة الرمزية ابن العرب
ابن العرب غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 17319
 تاريخ التسجيل :  Jun 2010
 أخر زيارة : 05-17-2015 (08:21 PM)
 المشاركات : 783 [ + ]
 التقييم :  50
لوني المفضل : Cadetblue


(9)
تحولت بلادي الخضراء، ذات الفواكه والزروع المتنوعة والمعادن الكثيرة، أقول تحولت إلى جحيم لا يطاق، وكيف يعيش الإنسان في أرض يكمن فيها الموت، ويبث الرعب في جنباتها، ويلهو بمصائرها الأجانب الغزاة، ما أفظع أن تعيش في بلدك الحبيب، الحقيقة لم أكن أنا الغريب، بل شعرت أن تركستان هي الغريبة، هي الشاردة الهائمة على وجهها في عالك كله ابتزاز وسجون وقتل، والشيء الذي أعجب له هو أني ما زلت حيا حتى الآن، لكنها إرادة الله، وما أقل ما بقي من المساجد، قلة من و الشيوخ الطاعنين في السنين يتوجهون إلى المساجد خفية، ويرتلون الصلوات في نبرات دامعة خافتة وعيون الجواسيس تراقبهم، قد لا يصيبهم أذى، لكن بنيهم وأهليهم معرضون دائما للانتقام، وكنا نمر على المساجد التي استولوا عليها وأحالوها إلى مسارح أو أماكن لسكنى الشرطة والإدارة، وننظر في الجدران ونبكي في هدوء، فمن يبكي علانية يعرض نفسه لموت محقق، وكنت أتنقل من بلد إلى بلد وكنت أتخذ لنفسي في كل مرة اسما جديدا..
آهـ. إنها ذكريات قديمة، لم أعد أذكر الأسماء التي انتسبت إليها، وفي أورومجي، وجدت أن تغيير الاسم وحده لا يكفي، لقد اشتغلت حمالا، وضعت على ظهري وقاء ثقيلا من قماش الأجولة وأمسكت بمخلبين حديديين، وتركت لحيتي وشاربي ينموان كيف شاء لهما، وبدت أقدامي الحافية متشققة، وكأنها عاشت في الطين عشرات السنين، ولزمت الصمت، وأحيانا إذا تلفظت بكلمات معقولة تشي بك الكلمات، وتكشف عن شخصيتك، وفي المساء ألجأ إلى حجرة قذرة صغيرة، وأعبد الله، كنت أتخيل أن الملائكة تمسح دموعي الحارة، إن حضارتنا تمحى وتذوب، الروس يأتون بعشرات الآلاف، والصينيون يأتون، وكذلك الصينيات حتى يحدث التزاوج بين أبناء تركستان وبين أبناء الغزاة الصينيين، قلت أعمل حمالا، كنت أحمل على ظهري خيرات بلادي من كل الأنواع وأضعها في السيارت الضخمة والقطارات كي تشحن إلى أرض الغزاة، كل الأشياء كانت تشحن، معادن وفواكه وبهائم ومزروعات... كان للغزاة الكبار أماكن للتجمع، هناك يرقصون ويشربون ويسهرون ويغنون، وكنت أرى العجب العجاب، ما أكثر الخونة الذين باعوا ضمائرهم ودينهم واستسلموا لرغبة الغزاة ونواياهم، وبذلك أمكنهم أن يتسلموا بعض المناصب الهامة، وبين عشية وضحاها تحولوا إلى نوع جديد من البشر، كلما نظرت إلى وجوههم خيل إلي أنهم لم يعودوا تركستانيين بالمرة، وأن طريقتهم في المأكل والمشرب والملبس، حتى أسلوبهم وسلوكهم، وكل شيء فيهم تغير، إنهم يقلدون السادة الغزاة في كل شيء، ويلوون ألسنتهم بلغة العدو، كلما نظرت إلى ملامح الوطن أصاب بالرعب، وكيف تعود تركستان الشرقية العروس الطاهرة الفاتنة ذات الطهر والنقاء.
اليأس يدب في نفسي، وأنا أدب في الأرض حزينا تثقلني الأحمال
التي أنقلها إلى السيارات أو إلى السفن، وأثناء
تجوالي في يوم من الأيام رأيتها أصابني الذهول ضرخت دون وعي:
نجمة الليل!
وتوقفت العربة التي يقودها أحد الصينيين، ونظرت بوجهها الشاحب، أفقت إلى نفسي، أدرت وجهي إلى وجهة أخرى، وأزمعت الفرار، لكنها طارتني بعربتها حتى أمسكت بي، نظرت إلي بعيون جامدة لا تطرف. وقالت: أريدك أن تتبعني إلى القصر..
ارتجفت وهتفت في ضيق
ستأتي إلي، السيد يريد رجلا يعمل في خدمتنا، وهو غائب خارج أورومجي، لا بد أن تحضر.
وقبل أن أفيق من هول المفاجأة، كانت العربة الأنيقة قد انطلقت،
وسمعتها قبل أن تنطلق تصف مكان القصر في كلمات
قصار، وعدت إلى حجرتي المظلمة العفنة أصلي وأبكي، في كثير
من الأحيان يبدو لي الموت أروح بكثير من الحياة، الموتى لا
يشعرون بشيء، وأحيانا أخرى يملآ قلبي اليقين بأن الإسلام لا بد ينتصر، وأن الحرية حتما ستجئ، أنا معلق بين اليأس والأمل، راغب في الموت أحيانا، متشبث بالحياة أحيانا أخرى، أنا الممزق المعذب الضائع الذي لا يعرف له طريقا يسير فيه ملجأ يهنأ فيه..
البحث عن قصر السيد ليس صعبا، القصر في مكان هادئ منعزلوعليه قليل من الحرس، ولم أستطع أن أذهب بثيابي الرثة، خلعت ملابس الحمال، ولبثت شيئا يليق بالحارس القديم في قصر حاكم قومول الذي انتهى أمره وتشتت عائلته
لم يمنعني أحد، نظر إلي حارس القصر وقال:
أأنت القادم لمقابلتها؟
هززت رأسي في خوف، وحمدت الله على أنه لم يسألني عن اسمي، مع أن اسمي قد لا يثر خطرا ذا بال، فالعدو عندما
يتمكن ويحكم قبضته يتوارى الخوف في قلبه، وينصرف بشيء من الاستهتار، ومن حسن حظي أن البيت كان خاليا، يا إلهي!
لماذا أتيت، وماذا أقول لها؟ وهل أقبل العمل في خدمة سيدة أصبحت من سيدات المجتمع الراقي؟ وقد كانت بالأمس مخطوبة
لي، ما معنى ما أفعل؟ هي في السماء وأنا ملقي على الأوحال، والموت يطاردني كما يطارد كل ثائر قديم، لكن حب الفضول
يدفعني دفعا لا هوادة فيه، كانت تجلس على كرسي من القطيفة
الحمراء، وترتدي لباسا أسود يزيد من فتنتها، لشد ما تغيرت
نجمة الليل، إنها تبدو حزينة وسيمة وقورة، لا أرى أثرا لطيش
الشباب ونزوات الصبا، تبدو كأرملة فاتنة..
قالت كنت أريد أن أراك منذ زمن طويل.
نظرت إليها دون أن أجيب.
قالت ظننت أنك قد لقيت حتفك في الحرب اعتصمت بالصمت، وحاولت أن أتكلم فلم أستطع.
قالت واليأس يجعل الإنسان يفعل أي شيء يا مصطفى مراد حضرت.
وانتظرت أن أفتح فمي بلا فائدة، هبت من مقعدها واقفة وقالت:
لشد ما أحترم الرجال الذين ماتوا في المعركة.
تمنيت أن لا يموت أحد على أعواد المشانق أو في ساحات السجون يجب أن يموت المناضلون في الميدان ولا يسلموا أنفسهم للغزاة.
ووجدتني أقترب إليها في جرأة وأقول:
ولماذا سلمت نفسك حية يا نجمة الليل؟
ضحكت في ألم:
ها أنت تتكلم أخيرا.. حسنا...أنا لا أبرر تصرفاتي، عندما سقط القصر أردت أن أحمي سكانه، وأردت في نفس الوقت أن لا أكون مطية لكل غاز لهذا اخترت رجلا وتزوجته.بالاسم فقط
قلت في دهشة:
وكيف تزوجت؟
كما يتزوج الآلاف، اعتنق الإسلام وتزوجني.لكن لم ياتيني
كما تعيش بلدي تركستان تحت وطأة الاحتلال، كما تعيش أنت في أورومجي الذي يحكمه العدو، كل شيء هنا يمضي بلا روح.
غمغمت : "بلا روح".
نعم افتقدنا عشق الأشياء وحبها، ولهذا نأكل وننام ونشرب ونلهو بلا روح، ونتحرك كأننا تماثيل من الشمع تحتاج إلى من ينفخ فيها الروح، كاللعب اليابانية الجميلة التي تجري وتصدر أصواتا وهي من خشب أو صفيح، الحياة الحقيقية لم يعد لها وجود، نحن نضحك ونبكي وننفعل كممثلي المسرح، هل فهمت يا مصطفى مراد حضرت؟
قالوا عني إنني طلقت الشرف والعفاف..
أهل قومول تروج بينهم الأكاذيب بسهولة، لماذا اهتموا بقصتي ذلك الاهتمام كله؟ لم أكن سوى وصيفة تافهة في محاربت الااحتلال
لم نزل على أعتاب الموت، أتعرف كم عدد الذين أعدمتهم الحكومة المحتلة؟ إنهم أكثر من مائة ألف.
ألست تركستانية مسلمة مثلك؟
المائدة عامرة بأطيب الطعام، والشعب في الخارج يأكل أوراق الشجر ويلتقط الفتات ويتضور جوعا، والأطفال المساكين ينظرون بعيون مفتوحة على الآخر، إلى الخيرات تشحن في العربات، أو تنقل إلى بيوت الغزاة.قالت اسمع اسمك تورسون اخفي شخصك بهذل الاسم تسمع فهمة
في هذا الاثنا لفا الظابظ
نظر إلي الضابط عند الظهر أثناء طعام الغداء نظرات نافذة وقال:
هل هذا هو الخادم الجديد؟
من أية مقاطعة أنت؟
فلت اسمي تورسون ، من مقاطعة آلتاي.
دارت رأسي، وأنا أنظر إلى السكاكين الموضوعة على المائدة.

قال تستطيع أن تنصرف أنت يا تورسون.
قالها في رقة، وعدت إلى المطبخ أتخبط كالثمل، الثائر لا يعرف المهادنة، والكراهية تأكل قلبي كما تأكل النار الحطب، وحربهم للدين وعقائده تدفعني لأن أرتكب أية حماقة، ليس الأمر خاصا بي، ولكنه ثأر لله.
باغتني السؤال، صحيح، لماذا أتيت؟ لقد كنت أفكر في الانتقام طوال حياتي من هؤلاء المعتدين، لكن أين الانتقام؟ ودق قلبي، هناك حقيقة أحاول إخفاءها، لقد كنت أحب ، إن قبولي المجيء إلى هذا القصر يمت إليها هي الخرىذكرى وانصرفت، لم أرها طوال اليوم، وبقيت أفكر لماذا ساءت الحال؟ وتحكم في أرضنا الغريب، قال لي في الزمن الغابر أحد خطباء مسجد "كاشغر":
يا بني إن الإسلام هو العزة، فمن تمسك به عز، ومن تركه ذل، وبلادنا استسلمت في نوم عميق، وغلبت عليها الدعائة والاسترخاء والعبث، وأخذ الناس ينسلون عن الدين عروة عروة يا بني لقد طغى الغنى وضاعت الحكمة ورضخ العلماء للأمراء وعم الفساد والفقر والجهل، وانتشرت المعاصي، يا بني هذا هو بداية الانهيار. وقال أيضا:
إن في الشرق اعداء وفي الغرب أعداء، وهم يعتصمون ابلقوة والكثرة، ونحن نعتصم بأمجاد قديمة، والأمجاد القديمة لا تصمد وحدها.
يا بني، المسلمون ممزقون، تركيا تنهكها الحروب والمظالم، والعرب تحت سنابك خيل العدو صامتون، والكفر ملة واحدة، والمسلمون ملل عدة، وبذلك تستطيع أن تفسر لماذا يكون النصر، ولماذا يكون الهزيمة.
إني أتذكر هذه الكلمات جيدا، وكلمات أخرى كثيرة كان يرددها خوجة نياز والجنرال شريف خات وغيرهما، كانوا مؤمنين شجعانا، وفي ساحة الموت لقوا الله دون خوف، لا شك أن مجيئي لها القصركان نزوة من نزوات الشيطان، ويجب أن أرحل، يجب أن أرحل على الفور، لكن بعد أن أفعل شيئا، مقابل الوقت الذي أضعته هنا، وبعدها أسرع بالذهاب إلى الرجال بالجبال.
يقال إن البطل العظيم عثمان باتور أحد رجالنا الشجعان يجمع الرجال ويستعد لثورة جديدة، فلماذا أبقى هنا؟