هل تحريم اختلاط الرجال بالنساء من فعل المتشددين من الفقهاء المتأخرين؟
السؤال :
تردد كثيرا في الآونة الأخيرة ما مفاده أن (الاختلاط)
بين الجنسين لفظ قديم دارج في كتب السلف ،
ولكنه لم يستخدم كمصطلح فقهي له أحكامه ،
وإنما كان هذا من فعل المتشددين من الفقهاء المتأخرين .
السؤال : كيف يتجلى الفرق بين اللفظ والمصطلح؟
وهل يصح استحداث المصطلحات في القاموس الفقهي إذا استدعت الضرورة ؟
الجواب :
الحمد لله
لفظ "الاختلاط" لفظ معروف في اللغة العربية ،
وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية .
أما القرآن الكريم فقد قال الله تعالى :
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا
إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) الأنعام/146 .
فالشحم المختلط بالعظام استثناه الله من تحريم الشحوم على اليهود .
وأما السنة النبوية ، فقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ)
رواه البخاري (2487) .
والخليطان هم الشريكان ، لأن رأس مالهما قد اختلط .
فهذه من شواهد وجود اللفظ في اللغة العربية ،
بمعنى الاختلاط بين شيئين مختلفين .
وأما استعمال العرب هذا اللفظ فهو كثير ،
ومن ذلك قولهم : اختلط القوم بعضهم ببعض ،
واختلطت الغنم بعضها ببعض .
وانظر : "لسان العرب" (1/1229 – 1232) .
ومن الأمثال العربية المعروفة : "اختلط الحابل بالنابل" .
والحابل هو من يصيد بالشبكة ،
والنابل هو من يصيد بالنبل ، وإذا اجتمع الاثنان للصيد في مكان واحد ،
فلن يظفر أحد منهما بصيد ، لأن كلاً منهما سيعطل الآخر .
وهذا المثل يُضرب للفوضى واضطراب الأمور .
وأما الاختلاط بين الناس ،
فقد ورد استعماله فيما رواه ابن ماجه (4032)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي
لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)
وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه .
بل ورد اللفظ بالمعنى المقصود في كلام العلماء :
اختلاط الرجال بالنساء ، في حديث رواه أبو داود (5272)
عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه
أنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ
فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ :
(اسْتَأْخِرْنَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ ،
عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ) فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ ،
حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ .
وحسّنه الألباني .
فقد عَبَّر أبو أسيد رضي الله عنه باختلاط الرجال مع النساء في الطريق ،
وهو دليلٌ على أنّه
استعمالٌ معروفٌ من زمان الصحابة رضي الله عنهم .
ويدل ـ أيضاً ـ
على أن اختلاط الرجال بالنساء لما وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عنه ، ولم يُقَّره ، وشرع من الأحكام ما يمنع هذا الاختلاط ،
حتى في الطريق .
إذاً فليس منع اختلاط الرجال بالنساء من فعل المتشددين من الفقهاء المتأخرين ، وإنما هو تشريع رباني ، بَيَّنه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ،
وقد قال الله تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل/44 .
وإذا مُنِعَ الاختلاط في الطريق مع كونه عابرًا عارضًا فمنعه في المجالس،
وأماكن العمل والتعليم ووسائل المواصلات أولى .
قال ابن حجر رحمه الله معلّقًا على حديث أم سلمة في انصراف النساء
قبل الرجال من المسجد :
"وَفِيهِ اِجْتِنَاب مَوَاضِع التُّهَم ،
وَكَرَاهَة مُخَالَطَة الرِّجَال لِلنِّسَاءِ فِي الطُّرُقَات فَضْلًا عَنْ الْبُيُوت"
انتهى من "فتح الباري"