وكانت نوتة ضائعةٌ تمشي، نعم تمشي بلا حذاء، على رصيف يشبه ما حلمتُ به ذات مساء حين لم أكن نائمًا، كنت أبحث عنكِ في زوايا الضوء، تتهجين اسمي بباطن كفكِ، تضحكين، وتنسين، وتعودين، خطوة فصمت فظل فذكرى... آه الذكرى تلك التي تعلق في سحاب المدينة مثل ثوب أبيض على حبل الغسيل لا يجف ولا يسقط... وكان المطر يعزف — أو هكذا خُيّل لي — نغماً مألوفاً، ليس نغماً، بل خفقة، خفقة تشبه صوتكِ حين قلتِ: "هنا؟" وكنتِ لا تعنين المكان بل اللحظة، واللحظة لا مكان لها إلا في اضطراب قلبي.
الأرصفة... كل تلك الأرصفة، مربعات مربعات، كرقعة شطرنج نسينا كيف نلعبها، كانت أقدامنا القطع، نحن الملك والملكة والبيادق التي لا تعود... كل خطوة سؤال، وكل التواء في الطريق ذاكرة تسقط من جيب الزمن... هل تذكرين؟ لا، أنتِ لا تذكرين، لكن الأرصفة تذكر، تحفظ، تعيد تشغيل التسجيل كل مساء حين نغيب، ثم تضحك، نعم الأرصفة تضحك حين نبكي، كم هي قاسية هذه الأرض التي علمتنا الحب.
وكان الحنين، لا يُرى لكنه في الهواء، بين النوافذ المغلقة ورائحة القهوة البائتة وجرس الدراجة الذي لا يرن إلا حين تمرّين، وأنا، آه أنا، أنا لست أنا حين تمرّين، بل ظلٌ يُصفّق لخطواتكِ، يحاول أن يُقنع الجدران أن الليل لم يكن مظلماً حتى قلتِ وداعاً...
هل كنتِ مجرّة؟ أم غيمة؟ أم فكرة سقطت من سماء مغلقة؟ لا أدري، لا يريد رأسي أن يدري، فكلما اقتربتُ من الجواب عاد الليل، والليل أنتِ حين تصمتين، حين تمشين، حين تنسينني في جيب معطفكِ وتذهبين...
القصائد، تلك القصائد... لم تُكتب يومًا على الورق، بل على الهواء، على البخار المتصاعد من قهوتكِ، على زجاج النافذة حين كتبتِ: "اشتقت"، وكنتِ لا تعنينني... القصائد تُولد حين نحب، وتموت حين نفهم.
ثم، ثم كان النداء، لا بصوت، بل بخطوة، بخفة، برعشة في الكتف، بلعنة لم أُرِد منها خلاصًا... تعالي، قلتها في رأسي، في الشارع، في وجه المارة، تعالي، والمطر يسمع، والشجرة تنحني، والرغبة تعوي مثل كلبٍ جائع.
...ومضيتِ، نعم، مضيتِ، لكن الأرصفة ظلت تعزف، تعزف، تعزف... ليس لأنكِ هنا، بل لأنكِ كنتِ، وذاكرة المكان أصدق من وعد الإنسان.
وهكذا... بلا نهاية... بلا جواب... تظل النوتة تمشي، تبحث عن عازفٍ لا يعرف النوتة، فقط يتبع قلبه
نيرودا...هسيس بين حلم وغيم