نساء فوق السحاب

فهد عامر الأحمدي
في الأسبوع الماضي كنت في رحلة الى دبي حين تعرفت على رجل أعمال جلس بقربي .. ودار حديثنا أولا عن أوربا وصعوبة حصول رجال الأعمال على الفيزا الموحدة " شنجن " ..
وبدون مقدمات انحنى باتجاهي وقال هامسا وكأنه سيخبرني بسر خطير :
"تصدق يا استاذ فهد مهما تطورنا نظل بدوا" ، ضحكت وقلت "ليش؟ قال : "سافرت برحلة طيران داخل أوربا وسارت الأمور على مايرام حتى تحدث كابتن الطائرة واتضح انه حرمة ومن وقتها نشف ريقي وطلع قلبي في حلقي " .. ثم اردف قائلا : "أعرف انك ستقول لافرق بين الرجال والنساء وان المهارات والمواهب لادخل لها بالجنس ، ولكن صدقني مهما حصل يظل بداخلنا شك في قدرات المرأه" !!
ابتسمت وقلت : لقد كفيتني الجواب ، ولكن الحقيقة هي أن النساء بالذات ساهمن في تطور الطيران وحققن ارقاما قياسية في بداياته الأولى ! ... قطب جبينه وسألني كيف ؟ قلت:
في بداية عهد الطيران تنافس المغامرون على تحقيق الارقام القياسية وقطع المسافات الطويلة . ففي عام 1909 مثلا نجح الفرنسي بليريو في قطع القناة الانجليزية لأول مرة . ثم قطع الشاب فاندنبرج المحيط الاطلسي وحيدا .. غير ان اطول مسافة وأول محاولة للدوران حول العالم أتت من النساء تحديدا ..
فهناك مثلا الأمريكية اميليا هارت التي طارت فوق المحيط الهادي وحطت في هاواي ثم اختفت طائرتها اثناء محاولتها الدوران حول العالم. ورغم انها فتاة خجولة الا انها حققت منذ طفولتها أرقاما قياسية عديدة. وكانت أول مغامراتها الكبيرة قطع المحيط الأطلسي والهبوط في لندن في رحلة تكاد تكون مستحيلة في ذلك الوقت. ومن إنجازاتها الأخرى رحلات طويلة نحو أمريكا اللاتينية، ثم قطعها المحيط الهادي - بعد عدة محاولات فاشلة - وزيارتها لدول عديدة في أقصى الشرق قبل أن تعود أدراجها إلى امريكا.
ولم تكتف إيمي بهذه الانجازات بل اتخذت فجأة قراراً ب(الطيران حول العالم). وبعد تجهيزات طويلة وحملة إعلانية صاخبة غادرت الساحل الغربي للولايات المتحدة عام 1937 وظلّ الجميع يتابع أخبارها حتى انقطع الاتصال بها بعد جزر هاواي. ومن يومها لم يعثر عليها أحد ولايدري اين اختفت بالتحديد ..
وقصة ايرهارت تذكرني بقصة مشابهة عن البريطانية "ايمي جونسون" التي أصبحت أول مهندسة طيران في العالم .. وذات صباح قررت فجأة الطيران من لندن إلى استراليا كأول إنجاز في تاريخ الطيران !
وكانت ايمي قد طلبت مساعدة وزير الطيران ثم رئيس مجلس العموم ثم وجهاء المجتمع.. إلا أن الجميع لم يرغب بمساعدة فتاة تريد تحقيق ما عجز عنه الرجال .. إلا أن إصرارها جعلها تنفذ رحلتها بطائرة "نص عمر" اشترتها ب600 جنيه فقط. وحتى موعد إقلاعها ( في 5 مايو سنة 1930) لم يهتم بها أحد ولم تنشر عنها الصحف كلمة واحدة. وكانت فيينا أول محطة تهبط فيها بعد لندن، ثم طارت إلى اسطنبول وهناك أعطتها فتاة تركية صغيرة ورقة زرقاء وطلبت منها أن لاتفتحها إلا بعد إقلاعها. وأثناء رحلتها إلى حلب تذكرت الرسالة ففتحتها ووجدت فيها : "لاتلقي بهذه الورقة في البحر.. فمن يرم ورقة زرقاء في البحر لا يغرق فيه أبدا" .. ابتسمت ايمي ووضعت الورقة في جيبها فهي لا تؤمن بالخرافات.
ومن حلب إلى بغداد اضطرتها عاصفة رملية للهبوط في الصحراء ساعات طويلة. ثم وصلت إلى البصرة، فبندر عباس فكراتشي وإسلام آباد.. وبعد إقلاعها من إندونيسيا تاهت طائرتها وأشيع أنها غرقت، إلا أنها فاجأت الجميع حين هبطت في مطار داروين في استراليا.. وبانتهاء هذه المحطات تكون ايمي قد أنهت رحلة قياسية وقطعت لأول مرة 12 ألف ميل في 19يوماً بطائرة عتيقة وبدون جهاز لاسلكي. وفي استراليا وضعت جائزة باسمها مازالت توزع حتى اليوم على أكثر الشبان شجاعة. وفي بريطانيا كالت لها الصحف المديح وعينتها الحكومة "الطيار الأول" في العالم !
وبعد تلك الرحلة حققت ايمي أرقاماً قياسية عديدة من بينها رحلة من لندن إلى رأس الرجاء الصالح ذهاباً وإياباً بدون توقف.. ولكن المفاجأة حدثت عام 1940 حين تحطمت طائرتها في نهر التايمز . وبعد خمس سنوات من البحث أعلنت وزارة الحربية أن الفتاة التي عبرت الصحاري والمحيطات غرقت في نهر صغير .. وكان أحد المتطوعين قد وجد بين حطام الطائرة ورقة زرقاء بالية قال والدها إنها لم تغادر جيبها منذ رحلتها لاستراليا !!
.. لم يبد عليه التأثر ؛ فقد زم شفتيه وقال :
.. "ما أدري يا أخي ؛ مازلنا بدوا" !!
جريده الرياض