إمـــرأة القمامة !!!

ترجمة :كريم المالكي

رغم أن اختيار هذا الموضوع يبدو غريباً بعض الشيء إلا أنه لا بد من وقفة على أناس مجهولين في هذه الحياة، هؤلاء الناس يشكلون حلقة مهمة في حياتنا اليومية بل انهم في نظر البعض مجاهدين من الطراز الأول.. فبلا شك ان المهنة التي اختارتها هذه المرأة الفلبينية ليست سوى اضطرار ولكنها ها هي اليوم تقهر الحياة بالوقوف على جبل النفايات لتأخذ على عاتقها مسؤولية استمرارية عائلة كاملة عبر توفير كامل احتياجاتها.



وعلى الجانب الآخر هل هناك من حاول يوماً ما ان يقف على حقيقة هذه المهنة - التي هي ربما الأشقى - والغوص في أسرارها؟.. أعتقد أن الإجابة لا.. فقد يقتصر الأمر على المعنيين ولكننا في هذا الموضوع سنجعل القارىء مضطراً على متابعة حياة »امرأة القمامة« التي اختارت هذه المهنة بملء ارادتها وقطعاً اننا لم نختر هذا العنوان إلا تأكيداً على أننا أمام امرأة ليست ككل النساء.. ولنتعرف سوية على مهنة امرأة القمامة الفلبينية التي تركت قريتها وجاءت لتعمل في مانيلا »كزبالة« ربما ينظر الى تيريزا جانوراس بازدراء من قبل بعض الناس من قريتها البعيدة التي هاجر منها قبل ثلاثين سنة مضت لتتجه نحو العاصمة مانيلا. لكنها لم تتخذ هذا القرار إلا بحثاً عن حياة معيشية أفضل.
لقد انطلقت تيريزا تلك المرأة الأربعينية غير مكترثة لكل الأصوات نحو أكوام القمامة لتكسب قوتها بهذه الطريقة منذ ذلك الوقت وكما يبدو فإنها مقتنعة بعملها القاسي والمتعب.

وتقول تيريزا جانوراس - التي هي الآن في السادسة والأربعين من العمر وتعيل عائلة مكونة من خمسة أشخاص كزبالين: يقولون ان رائحتها كريهة ويقولون بأننا قطعنا كل هذه المسافة لنصل الى مانيلا فقط لمجرد ان نعمل في أكوام القمامة.
وتقيم تيريزا في منزلها الصغير الذي زخرفته بستائر غير منسجمة مع بعضها على الأكثر أخذتهم من النفايات التي تعمل فيها حيث تقول انهم لا يعرفون ان هذه النفايات مصدر يجود لي بالكثير.. وتضيف تأمل ذلك.. نحن ليس لدينا رؤساء يشرفون علينا ونعيش حياة حرة، فبالنسبة لي عندما أشعر بأني لا أرغب بالذهاب الى عملي لا أفعل ذلك وأنا مضطرة. هنا في هذا المكان يكون مصدر قلقك الوحيد هو كيف ان تبقى وكيف تؤمن قوتك اليومي، ولكن أكوام القمامة يمكن لها ان توفر لك ذلك الجانب.

ويقول جميل جيملن المشرف على ادارة مستودعات القمامة: الجهاز الإداري للمدينة لديه برنامج يساعد الكناسين على إعادة اسكانهم في ولاياتهم الأم لكن معظمهم يفضلون العودة الى هذا المكان ويضيف: في الولايات المتحدة لا توجد أسباب العيش كالتي توجد في المدينة لذا تجدهم يفضلون المدينة كما انهم يحبون المدينة.
وعندما تعمل تيريزا - والتي يكون عملها يومياً تقريبا - تنزل في أعماق أكوام القمامة لمدة (11) ساعة تقريباً وعادة ما تنطلق مع خيوط الفجر الأولى.. ويكون يوم سعدها عندما تصل حصيلة عملها الى اكثر من ثلاثة دولارات.
وتقول تيريزا: نحن نصرف كل ما نحصل عليه واذا ما حالفني الحظ في يوم ما فإننا نأكل بشكل جيد. ولكن في الأيام التي تكون بها الحصيلة غير جيدة فنكتفي بالأرز وعجينة السمك.



تلك المرأة »التي تشبه الطائر الدوري« النحيفة التي فقدت معظم اسنانها هي واحدة من بين (150) الف شخص يعملون في القمامة أو كزبالين أو ممن يقومون بإعادة تدوير النفايات التي يصل حجمها الى (700.6) طن تلفظها العاصمة مانيلا يومياً وتعد تيريزا مثال حياً عن الفقر والانهيار الريفي وطبقاً لما ذكره بنك التنمية الآسيوي يتم دفن حوالي ثلاثة أرباع النفايات والأزبال في حقول وأنهر كريهة الرائحة وخلجان النفايات.. وتبدو مستودعات النفايات العشرة في المدينة لا تتسع لهذه الكميات الكبيرة إلا انه لا توجد مواقع بديلة غيرها.
ويعد المستودع الذي تعمل به تيريزا من أشهر المستودعات في المدينة ويبلغ ارتفاع مستودع »بياتاس« 30 متراً أو 100 قدم وهو عبارة عن جبل من النفايات والذي انهار بسبب الأمطار الموسمية التي سقطت قبل ستة أعوام وقد دفن على أثرها حوالي (200) شخص ممن كانوا يسكنون بعض الأكواخ القريبة التي قاموا ببنائها متجاوزين على الأراضي الحكومية.

وقد أدت تلك الحادثة الى اثارة نشاط مدني غير اعتيادي بحيث حول مستودع »بياتاس« الى حالة من النظام والترتيب مما جعله مثالاً للعديد من مواقع العمل المتخصصة بشؤون التنظيف في مانيلا. لقد تم تحويل جبل النفايات الى منحدر مبرمج خالٍ من احتمالات الإنهيار السريعة وتم نقل أصحاب الأكواخ الى خارج حدود سياج أمني أصفر. وتم وضع لافتات توضيحية وعبارات تشير الى انه من لا يحمل بطاقة لا يسمح له بالدخول، وكذلك لا يسمح بدخول الأطفال دون سن الرابعة عشرة اضافة الى العديد من الاشارات التوضيحية التي وضعت على جانب التل تحذر السائقين وتطالبهم بالتأكد من الفرامل وأن يلقوا حمولتهم بسرعة.

كما ارتدى حراس الأمن فانيلات خضراء براقة وتحمل شعارات تنادي بحماية البيئة وعلى الجميع الالتزام. وكما هو حال معظم الزبالين الذين يعملون هناك تضع جانوراس تيريزا حول رقبتها بطاقة تعريفية وعندما تصل الى موقع العمل ينطلق صوت من مكبر الصوت الموجود في قمة الجبل يحييها بالنشيد الوطني.
ومن وقت لآخر ينساب من مكبر الصوت نغامات إلهامية آسرة تقول كلماتها: »هنا على قمة جبل النفايات يمتد خيط بين التراجيديا والفرح، يا فلبيني أيا الفلبيني أظهر للعالم ما بإمكانك أن تفعله. أيها الفلبيني انك مميز فلا تخف وكن فخوراً، نحن فلبينيون«.

ولكن لا يمكن بأي حال اخفاء الحقيقة من ان مستودع النفايات والعمل الذي تقوم به تيريزا جانوراس قذر ومخز.
تيريزا والزبالون الآخرون في هذا المكان يشاركون الذباب الذي يطير على شكل أسراب فوق أحشاء المدينة التي يستقبلها المستودع وهناك حيث هذا المنظر يبدأون بحركات ثابتة: الانحناء ثم الوصول والاستدارة وتحريك القطعة التي تم تعيينها ثم رفعها والحفر وتصبح الحركة شبه ايقاعية انحناء واستدارة وانتقال وهكذا مع ان الشمس تأخذ في التسلق نحو كبد السماء حيث تشعر تيريزا بأنها تغرق في مستنقع سحيق لا نهاية له ابداً. وعندما تمطر السماء تؤدي الروائح العفنة التي تتطاير من حاويات الأسمدة الكيماوية الى اجبار اي زبال له خبرة طويلة في العمل بالقمامة على ترك جبل النفايات والنزول والابتعاد الى السفح ويضعون اياديهم فوق وجوههم ويبدأ الوحل بالوصول الى مستويات أعلى من الأحذية المطاطية الطويلة التي يرتدونها.

وتقول تيريزا في بعض الأحيان تصل الرائحة الكريهة من القوة بحيث أشعر بأنني ارغب في إلقاء نفسي من فوق. أما في الأشهر الجافة فإن شاحنات صبغت بألوان براقة كتب عليها: الخدمات بأحسن حال، وتنشط الروائح الكريهة والأتربة المرضية بحيث انها تغلق حتى الرئتين. ان الدوار والسعال والريح القوية التي تجعلهم أشبه بالراقصين تحول الزبالين الى طاحونات هواء حيث يتركون ظهورهم للهواء القوي الذي ينقل كل ما هو مضر بالصحة.
ويبقى الزبالون والذين يقومون بإعادة تدوير النفايات الأشخاص الذين يساوون بين الناس حيث يبددون وينكفئون على بقايا المدينة، وربما لأنهم يرونها ترجع ثانية كنفايات وكدائرة تبدأ العملية مع وصول شاحنة القمامة التي عادة تأتي بشكل دوري ومتسلسل وبفاصلة زمنية لا تتجاوز الدقائق ويبلغ عددها حوالي (400) شاحنة يومياً وتنقل حوالي (1800) طن من القمامة الى داخل مستودع باياتسا في غضون (16) ساعة تقريباً.
ويقول مدير ادارة المستودع جميل جيملين نحن نعرف من أي منطقة جاءت الشاحنة بمجرد شم الرائحة لأننا نعمل هنا منذ سنوات، انها المهارة التي اكتسبناها بواسطة الشم.

ويقوم الزبالون بعملية تنقية ونخل لمحتويات الشاحنة حيث يقومون بتمريرها على مقرات التخصص - وهناك من المخازن التي تبحث عن سكراب أسلاك النحاس والصحف القديمة وعبوات الألمنيوم وعلب الكارتون والإطارات والبلاستيك والدمى المكسورة والنوابض الحلزونية وفي النهاية كافة مستلزمات الحياة العصرية.
وملكة اعادة تدوير النفايات هي أميلدا ماركوس - التي كانت يوما ما السيدة الأولى - التي اصبحت الآن تصمم المجوهرات من المواد البلاستيكية التي يتم رميها، وتقول اميلدا ماركوس خلال مقابلة اجريت معها في منزلها الفاره: ان العالم ينتج كمية كافية من النفايات التي يمكن اعادة تدويرها وصنع ما لا يتصوره الآخرون.
أما تيريزا جانوراس فهي متخصصة في الأطعمة المتعفنة والتي تأتي عادة من المطاعم والفنادق والتي تقوم بتوضيبها ووضعها في أكياس بلاستيكية ثم تنظيفها ومن ثم تبيعها الى رجال وسطاء كطعام للخنازير.
كما انها تتعامل ايضاً مع انواع من المواد البلاستيكية التي تستعمل لأغراض التغليف حيث تجلبها الى سكنها وتقوم بتنظيفها ومن ثم غزلها على شكل سلال لأغراض البيع.
وتقول تيريزا: اقوم عادة بجمع العبوات النحاسية الصغيرة والقناني الفارغة وعلب الكارتون، غير أن الخردوات أسهل بكثير على الحمل.

وتظهر على رقبة تيريزا بطاقتها الصفراء المصفحة بحيث يتيح اللون المشفر الى الفريق المعني بالدخول، ولأنها متخصصة في جمع نفايات محددة كالقناني البلاستيكية والأقداح، فإنها تتعامل مع مصانع معينة وتلك مسؤوليتها الأولى ولكن ان أي شيء يجده الكناس يصبح ملكه ويستطيع التصرف به.
وتضيف: انك تستطيع الاحتفاظ بالمواد التي بحثت عنها وجمعتها. وهناك أشخاص لا يأخذون سوى الملابس أو القناني الفارغة أو بطاقات اليانصيب. أو المواد الكيمائية المخصصة لأعمال تقوية التربة.
وكما يبدو أن الكناسين في فريقها يعرف كل منهم اختصاصه وتقول تيريزا عندما اجد خردوات خشبية تتركها لأحد أعضاء الفريق الذي يقوم بأخذها وعندما يجد احد أعضاء الفريق مواد بلاستيكية أو مخلفات نايلون أو أطعمة فاسدة فإنهم ينادون عليها لتأخذها.

وعند انتهاء يوم العمل تنزل تيريزا من جبل النفايات باتجاه الأسفل حيث تتوجه الى منزلها الصغير الذي يبعد مسافة كيلومتر ونصف عن مركز عملها حيث ينتظرها هناك كل من زوجها العاطل عن العمل وأبناؤها المراهقون الذين لا يعملون ايضاً في حين ان ابنتها المراهقة تدرس في احدى مدارس المدينة.
وتقول تيريزا: نعم في الفلبين ان ذلك أمر عادي وليس بالغريب ان تقوم امرأة بمساعدة الرجال في العائلة الواحدة. وتضيف ليس بإمكان أحد أن يجبرهم على العمل، وحتى في الولايات المتحدة يحدث الشيء نفسه فإذا كان الزوج لا يعمل فإن على الزوجة ان تجد طريقة ما لتقدم المساعدة للعائلة.

ويقول زوج تيريزا انه يعمل في بعض الاحيان كنجار ولكنه يستدرك بأنه تقدم به العمر على العمل غير انه ليس سوى (47) عاماً ولا يكبر زوجته إلا بسنة واحدة.
وعندما تكون تيريزا خارج المنزل يبقى الرجال العاطلون في البيت النظيف.. ومع انه لا يحوي سوى الأشياء البدائية إلا انه من النظافة بحيث لا تصدق بأنه يقع على حافة جبل القمامة.. وغرفه الصغيرة خالية حتى من الغبار.. وفي البيت هناك ايضاً ************ نظيف ومطبخ اضافة الى هرة صغيرة جميلة.. أما أدوات المطبخ فعلى درجة من النظافة رغم انها قليلة جداً.
ومع ان تريزا تقضي اكثر من (11) ساعة في جبل القمامة مع الذباب والقاذورات إلا انها تدخل الى بيت يخلو نهائيا من أي حشرات باستثناء عندما يكون الجو حار حيث تجلس تيريزا تحبل السلال البلاستيكية تجد ان البعوض يجد له طريقاً للدخول في منزل امرأة القمامة.

ترجمات

JOKAR