أليس من الأحرى أن لا تفوت الفرصة ، ولا تضيع الغنيمة ؟ أليس كل مفرط مغبون ؟ أليس كل مقصر خاسر ؟
أليس كل مضيع محروم ؟ بلى والله ، وما أعظم الخسران لمن ضيع الغنائم وهو نائم ، لم يكن به مرض مقعد ،
ولا حال دونه ودون مراده عدو قاهر .
إنني أعني بكل ما سبق النائمين المتخلفين عن صلاة الفجر وإنني لأهمس - بل أصرخ – في أذن كل منهم :
" الغنائم أيها النائم".ـ
* غنائم الفجر
الغنيمة الأولى : الحرية الإيجابية :ـ
عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة ، عليك ليل طويل فارقد ،
فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس،
وإلا أصبح خبيث النفس كسلان )
[ متفق عليه ] .ـ
الشيطان يقيّدك ، وعن الخير يقعدك ، وفي أسره يحبسك ، إنه يصدك عن الذكر ويحرمك من عظيم الأجر ،
إذا أردت أن تجيب النداء " حي على الصلاة " ردك بالترغيب في النوم ، وإذا سمعت المقارنة " الصلاة خير من النوم "
صرفك عن الخير بالمزيد من النوم ؛ فإن كنت ذا عزيمة ، وتنبهت وتوضأت وبادرت إلى أداء الصلاة ،
كنت في كل خطوة تحطم قيداً من قيوده ، وتهزم جنداً من جنوده ،
وما تزال مواصلاً تذكر الله فتحل عقدة ، ثم تمضي مصرّاً على مخالفته فتتوضأ فتنحل الثانية ، ثم تتابع مقبلاً على الله
فتقل قوته وتنفك من أسره فتصبح وقد تحررت من قيده ، وتغلبت على مكره وكيده .
ذكر القرطبي - رحمه الله - في قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( نم عليك ليل طويل فأرقد ) أن هذا من كيد الشيطان
وتغريره بالإنسان ، وقال : أنه – أي الشيطان - يخبره عن طول الليل ثم يأمره بالرقاد…ومقصود الشيطان بذلك
تسويفه بالقيام والإلباس عليه ، وفي قوله : ( يعقد الشيطان… ) وعلى كل فالمراد أن التارك للذكر والطهارة والصلاة
واقع تحت تأثير الشيطان ووسواسه ، أي كأنما يتحكم فيه فيقوده ويوجهه بسيطرته وقبضه على قفاه ، فهل ترضى
أن تكون ذلك المأسور المستعبد ؟ أم تكون ذلك القوي المنتصر - بإذن الله - .
إنه انتصار الطاعة على المعصية ، والذكر على الغفلة ، والعزيمة على الضعف ، والخير على الشر ،
فما أعظمها من غنيمة ، احرص عليها ولا تفرط .
الغنيمة الثانية : الانطلاقة الحيوية :ـ
ومرة أخرى نأخذ هذه الغنيمة من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – السابق ، إنها غنيمة حسية مهمة،
أثرها ظاهر بل باهر ، وفائدتها أكيدة بل فريدة ، تأمل معي قوله – صلى الله عليه وسلم - فيمن ذكر وتطهر وصلى الفجر:
( أصبح نشيط النفس ) إن افتتاح اليوم بالذكر والطاعة يجعلك منشرح الصدر ، طيّب الخاطر، قوي العزم ،
متجدد النشاط ، تنطلق وفي محياك وسامة ، وعلى ثغرك ابتسامة ، وينفرج –بإذن الله – كربك ، ويزول-بعون الله- همّك ،
وترى من نفسك على الخير إقبالاً، وللطاعة امتثالاً، وتجد الأمور ميسرة، والصعاب مذللة، يلقاك التوفيق مع بشائر النهار،
ويصحبك النجاح في سائر الأحوال.
وانظر - أخي- إلى من حرم هذه النعمة ، وفاتته تلك المنة .. انظر إليه وقد أصبح في غفلة فإذا هو " خبيث النفس كسلان" ،
لا يصحوا إلا متثاقلاً ، وتراه مكدر الخاطر ، ضيق الصدر ، فاتر العزم ، تنظر إليه فكأنما جمع همَّ الدنيا بين عينيه ،
وكثيراً ما تتعسر أموره ، وتتعثر مقاصده ، إنه يكون خبيث النفس بسبب" إتمام خديعة الشيطان عليه" ويكون كسلاناً أي متثاقلاً
عن الخيرات لا تكاد تسخو نفسه ولا تخف عليها صلاة ، ولا غيرها من القربات ، وربما يحمله ذلك إلى تضييع الواجبات .
[ المفهم 2/140 ] .
قال ابن عبدالبر : " هذا الذم يختص بمن لم يقم إلى صلاته وضيعها . أما الذي انبعث للطاعة ، وبادر للصلاة ؛
فإنه يكون " طيب النفس " لسروره بما وفقه الله له من الطاعة ، وبما وعده من الثواب ،
وبما زال عنه من عقد الشيطان ،كذا قيل ، والذي يظهر أن في صلاة الليل سراً في طيب النفس
[ الفتح3/26] .
ومن معاني النشاط أنه يكون نشيطاً لما يرد عليه من عبادات أخر من صلوات وغيرها ؛ فإنه يألف العبادات
ويعتادها حتى تصير له شرباً ، فتذهب عنه مشقتها ولا يستغني عنها
[المفهم2/409 ] .
إنه ينشط بزوال آخر سحر الشيطان عنه ، وكفايته إياه ، ورجوعه خاسئاً عنه خائباً من كيده
ـ [ إكمال المعلم3/142 ] .
فما أحسنها من غنيمة تشبث بها ولا تضيع .
الغنيمة الثالثة : البشارة النورانية :ـ
حديث رواه عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ست عشرة صحابياً ، أسوقه لك من رواية بريدة بن الحصيب
- عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( بشِّر المشَّائين في الظُلم بالنور التام يوم القيامة ) .ـ
الجزاء من جنس العمل ، والحق - جل وعلا – يقول : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } ، وأنت عندما
خرجت لصلاة الفجر ، والظلام مازال يلف الكون ، والدنيا مازالت في الغلس ؛ فإن جزاءك ومكافأتك نور تام
يوم القيامة ؛ لأنك أطعت ربك ، وأقبلت على مولاك ، وطلبت النور لقلبك وروحك ، تأمل معي لفظ الحديث :
( بشر المشائين ) أي من تكرر منه المشي إلى إقامة الجماعة ، ( في الظلم ) أي ظلمة الليل ، والبشرى هي
( النور التام يوم القيامة ) ؛ لأنهم لما قاسوا مشقة ملازمة المشي في ظلمة الليل إلى الطاعة جوزوا بنور
يضيء لهم يوم القيامة ، وهو النور المضمون لكل مشاء إلى الجماعة في الظلم .
ولماذا وصف النور بالتام ؟ والجواب :
أن أصل النور يعطى لكل من تلفظ بالشهادتين من مؤمن أو منافق لظاهر حرمة الكلمة ، ثم يقطع نور المنافقين .
وأما تقييده بيوم القيامة فقال الطيبي : " تقييده بيوم القيامة تلميح إلى قصة المؤمنين وقولهم فيه : { ربنا أتمم لنا نورنا }
ففيه إيذان أن من انتهز هذه الفرصة - وهي المشي إليها في الظلم في الدنيا - كان مع النبيين والصديقين
في الأخرى {وحسن أولئك رفيقاً } " .
[فيض القدير3/201 ]
الله أكبر ، متى يأتيك النور ؟ إنه يقدم لك في موقف عصيب ، وهول رهيب ، إنه يسطع بين يديك
في وقت أحوج ما تكون إليه ، اقرأ معي قول الله تعالى :
{يوم ترى المؤمنين والمؤمنات نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها ذلك الفوز العظيم *يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا
وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } .ـ
لله ما أعظمها من نعمة يكون لهم النور في ذلك الموقف الهائل الصعب كل على قدر إيمانه ، ويبشرون عند ذلك
بأعظم بشارة فيقال : {بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } .ـ
فالله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم ، وألذها لنفوسهم ، حيث حصل لهم كل مطلوب محبوب ، ونجوا من كل شر مرهوب .
فإذا رأى المنافقون المؤمنين يمشون بنورهم ، وهم قد طفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين ،قالوا للمؤمنين :
{انظرونا نقتبس من نوركم } أي أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به لننجو من العذاب . { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً }
أي إن كان ذلك ممكناً ، والحال أن ذلك غير ممكن بل هو من المحالات ، { فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة }
وهو الذي يلي المؤمنين {وظاهره من قبله العذاب } وهو الذي يلي المنافقين .
[ تفسير السعدي7/290 ] .ـ
وقد أورد ابن كثير في تفسيره [ 4/308 ] عن ابن أبي حاتم بسنده إلى أبي الدرداء وأبي ذر – رضي الله عنهما -
يخبران عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
( أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني
وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم ) فقال له رجل : " يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك؟ "
فقال : ( أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم ، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ،
وأعرفهم بسيماهم في وجوههم ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ) .ـ
صلاة الفجر تؤهلك لتكون من أهل النور في وقت يتخبط فيه الآخرون في الظلمات ، فما أجزلها من غنيمة،
بادر إليها ولا تتأخر .
الغنيمة الرابعة : الشهادة الملائكية :ـ
يقول الحق - جل وعلا - : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً } ،
والمفسرون يذكرون عند هذه الآية حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم
فيسألهم الله- وهو أعلم بهم- : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون )
[متفق عليه] .
إن السائل هو الله ملك الملوك ، والمسئولون هم الملائكة الذين {لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }
و { لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون }، نعم هؤلاء الملائكة المقربون يشهدون لك عند الله ، ويذكرونك بأداء الصلاة ،
ويمدحونك بشهودك الجماعة ، الملائكة الأبرار الأطهار يشهدون أنك من العباد المصلين الأخيار .
تأمل معي :" لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم بأن جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون
شهادتهم لهم بأحسن الشهادة "
[الفتح2/35 ] .ـ
فهل رأيت أثر صلاة الفجر في صلتك بالملائكة وشهادتهم لك.
وفي التفسير مزيد من القول أنقله لك من تفسير الألوسي عند قوله تعالى : {إن قرآن الفجر كان مشهوداً } حيث قال :
أخرج النسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة عن أبي هريرة – رضي الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم -
أنه قال في تفسير ذلك : تشهده - أي قرآن الفجر - ملائكة الليل وملائكة النهار ، وقيل يشهده كثير من المصلين في العادة ،
وقيل من حقه - أي قرآن الفجر - أن تشهده الجماعة الكثيرة ، وقيل تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة
من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت .
وأختم هذه الغنيمة بقول الألوسي المفسر - رحمه الله - :
" ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر ؛ لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراماً ،
ومتلقى كراماً ، فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح إليه النازل " .
فما أجلها من غنيمة ، فلا تغب عن شهودها .
الغنيمة الخامسة : الحصانة الإلهية :.
عن جندب بن سفيان – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :ـ
ـ (من صلى الصبح فهو في ذمة الله ، فانظر يا ابن آدم لايطلبنك الله من ذمته بشيء )
[ رواه مسلم] .ـ
إنها حصانة إلهية ، وحماية ربانية تكون بها-إذا صليت الفجر- في ذمة الله أي في حفظه، يصرف عنك الشرور ،
ويبعد عنك الأذى ، ويسلمك من مهاوي الردى ، إنه حفظ عظيم فريد ، وإنه لشرف كبير أن تكون أيها العبد الضعيف
في حماية الملك العظيم رب الأرباب ، وملك الملوك ، وجبار السماوات والأرض - سبحانه وتعالى - .
إن الله يدافع عنك ، ويُحذر من يتعرض لك بالأذى ، فأنت في ذمة الله ، أي في آمان الله وفي جواره ،
أي قد استجار بالله تعالى ، والله تعالى قد أجاره ، فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بضر أو أذى ، فمن فعل ذلك فالله يطلب بحقه ،
ومن يطلبه لم يجد له مفراً ولا ملجأ ، وهذا وعيد شديد لمن يتعرض للمصلين .
[ المفهم 2/282] .
وعلى هذا فمعنى قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( لا يطلبنكم الله في ذمته بشيء )
هو نهي للناس من أن يتعرضوا له بشيء ؛ فإن فعلوا فإن الله يتهددهم .
[حاشية إكمال المعلم 2/630 ] .
ومن جهة أخرى في الحديث تنبيه مهم لا بد من العناية به والانتباه له ؛ فإن صلاة الفجر هي سبب ذلك الآمان والجوار ؛
فإن تركتها لم يكن آمان ولا جوار ؛ والمعنى الضمني في الحديث
" لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض العهد الذي بينكم وبين الله عز وجل "
[حاشية إكمال المعلم 2/630 ] .ـ
إنها ثمرة عظيمة ، وغنيمة جسيمة ، وأنت يا من صليت الفجر المؤهل لنيلها ، فلا تفوت الغنيمة ، وتعرض لها ولا تُعرض .
الغنيمة السادسة : النجاة العظمى :.
عن أبي زهير عمارة بن رويبة – رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول:
( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها )
يعني الفجر والعصر [ رواه مسلم ] .ـ
حديث عظيم ، وبشارة كبرى ، إنها السلامة والأمان من عذاب النيران ، إنه المطلب العظيم والسؤال الدائم لأهل الإيمان
{ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } ..
{ ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } ..
{ والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ، إنها ساءت مستقراً ومقاماً } ،
إن صلاة الفجر صمام آمان من النار ، وسبب من أسباب النجاة من عذابها ، ومعنى الحديث :
" لن يلج النار من عاهد وحافظ على هاتين الصلاتين ببركة المداومة عليها "
[ المفهم 2/262 ] .
عذاب النار الذي تخلع منه قلوب المؤمنين ، وتشفق منه نفوسهم ، وحق لهم ذلك فما أخبر الله به عنها
فيه أعظم التهديد وأشد الوعيد إنها النار { وقودها الناس والحجارة } ، ـ
كل هذا الهول العظيم والعذاب الأليم ألا تخشى منه ؟ ألا ينخلع قلبك خشية أن تستوجب شيئاً منه ؟
أليست إذن نعمة كبرى ، ومنّة عظمى أن تسلم وتنجو منه ؟
إنه غنيمة لا يمكن أن تقدر بثمن فعليك بها ، ولا تدعها تفلت .